يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده أمر بالتقوى على سبيل الموعظة، والتذكير بيوم عظيم بعد ذكر دلائل الوحدانية، ويجزي من جزى بمعنى قضى، ومنه قيل للمتقاضي المتجازي أن لا يقضي والد عن ولده شيئا.
وقرأ أبو السمال، وعامر بن عبد الله، وأبو السوار: «لا يجزئ» بضم الياء وكسر الزاي مهموزا، ومعناه لا يغني والد عن ولده، ولا يفيده شيئا من أجزأت عنك مجزأ فلان أي أغنيت.
وقرأ «يجزى» بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول، والجملة على القراءات صفة (يوما)، والراجع إلى الموصوف محذوف، أي فيه، فإما أن يحذف برمته، وإما على التدريج بأن يحذف حرف الجر فيعدى الفعل إلى الضمير، ثم يحذف منصوبا، وقوله تعالى: عكرمة ولا مولود إما عطف على ( والد ) فهو فاعل ( يجزي )، وقوله تعالى: هو جاز عن والده شيئا في موضع الصفة له، والمنفي عنه هو الجزاء في الآخرة والمثبت له الجزاء في الدنيا، أو معنى هو جاز: أي من شأنه الجزاء لعظيم حق الوالد، أو المراد (بلا يجزي) لا يقبل ما هو جاز به، وإما مبتدأ والمسوغ للابتداء به مع أنه نكرة تقدم النفي، وذهل المهدوي عن ذلك، فمنع صحة كونه مبتدأ، وجملة ( هو جاز ) خبره، ( وشيئا ) مفعول به، أو منصوب على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف، وعلى الوجهين قيل تنازعه ( يجزي وجاز ) واختيار ما لا يفيد التأكيد في الجملة الأولى، وما يفيده في الجملة الثانية، لأن أكثر المسلمين وأجلتهم حين الخطاب كان آباؤهم قد ماتوا على الكفر، وعلى الدين الجاهلي، فلما كان غناء الكافر عن المسلم بعيدا لم يحتج نفيه إلى التأكيد، ولما كان غناء المسلم عن الكافر مما يقع في الأوهام أكد نفيه، قاله . الزمخشري
وتعقبه ابن المنير بأنه يتوقف صحته على أن هذا الخطاب كان خاصا بالموجودين حينئذ، والصحيح أنه عام لهم، ولكل من ينطلق عليه اسم الناس، ورده في الكشف بأن المتقدمتين فاسدتان، أما الثانية فلما تقرر في أصول الفقه أن ( يأيها الناس ) يتناول الموجودين، وأما لغيرهم فبالإعلام، أو بطريقه، والمالكية موافقة، وأما الأولى فعلى تقدير التسليم لا شك أن أجلة المؤمنين وأكابرهم إلى انقراض الدنيا، هم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، ومعلوم أن أكثرهم قبض آباؤهم على الكفر، فمن أين التوقيف اهـ.
واختار ابن المنير في وجه ذلك أن الله تعالى لما أكد وقرن وجوب شكرهم بوجوب شكره عز وجل، وأوجب على الولد أن يكفي والده ما يسوء بحسب نهاية إمكانه قطع سبحانه ها هنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة يجزيه حقه عليه، ويكفيه ما يلقاه من أهوال يوم القيامة، كما أوجب الله تعالى عليه في الدنيا ذلك في حقه، فلما كان جزاء الولد عن الوالد مظنة الوقوع لأنه سبحانه حض عليه في الدنيا كان جديرا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم، ولا كذلك العكس، وقريب منه ما قاله الإمام: إن الولد من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما عليه من الحقوق، والولد يجزي لما فيه من النفقة، وليس ذلك بواجب عليه فلذا قال سبحانه في الولد: ( لا يجزي )، وفي الولد الوصية بالآباء، ولا مولود هو جاز عن والده ألا ترى أنه يقال لمن يحيك، وليست الحياكة صنعته هو يحيك، ولمن يحيك وهي صنعته هو حائك، وقيل: إن التأكيد في الجملة الثانية للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي لأنه دون الوالد في الحنو والشفقة، فلما كان أولى بهذا الحكم استحق التأكيد [ ص: 108 ] وفي القلب منه شيء، وقد يقال: إن العرب كانوا يدخرون الأولاد لنفعهم، ودفع الأذى عنهم، وكفاية ما يهمهم، ولعل أكثر الناس كذلك، فأريد حسم توهم نفعهم ودفعهم الأذى، وكفاية المهم في حق آبائهم يوم القيامة، فأكدت الجملة المفيدة لنفي ذلك عنهم، وعد من جملة المؤكدات التعبير بالمولود، لأنه من ولد بغير واسطة بخلاف الولد، فإنه عام يشمل ولد الولد، فإذا أفادت الجملة أن الولد الأدنى لا يجزي عن والده علم أن من عداه من ولد لا يجزي عن جده من باب أولى.
واعترض بأن هذه التفرقة بين الولد والمولود لم يثبتها أهل اللغة، ورد بأن الزمخشري، والمطرزي ذكرا ذلك، وكفى بهما حجة، ثم إن في عموم الولد لولد الولد أيضا مقالا، فقد ذهب جمع أنه خاص بالولد الصلبي حقيقة.
وقال صاحب المغرب: يقال للصغير مولود، وإن كان الكبير مولودا أيضا لقرب عهده من الولادة، كما يقال: لبن حليب، ورطب جني، للطري منهما، ووجه أمر التأكيد عليه بأنه إذا كان الصغير لا يجزي حينئذ مع عدم اشتغاله بنفسه لعدم تكليفه في الدنيا فالكبير المشغول بنفسه من باب أولى، وهو كما ترى، وخصص بعضهم العموم بغير صبيان المسلمين لثبوت الأحاديث بشفاعتهم لوالديهم.
وتعقب بأن ليست بقضاء ولو سلم، فلتوقفها على القبول يكون القضاء منه عز وجل حقيقة، فتدبر. الشفاعة
إن وعد الله قيل: بالثواب والعقاب على تغليب الوعد على الوعيد، أو هو بمعناه اللغوي، ( حق ) ثابت متحقق لا يخلف، وعدم إخلاف الوعد بالثواب مما لا كلام فيه، وأما عدم إخلاف الوعد بالعقاب ففيه كلام، والحق أنه لا يخلف أيضا، وعدم تعذيب من يغفر له من العصاة المتوعدين فليس من إخلاف الوعيد في شيء، لما أن الوعيد في حقهم كان معلقا بشرط لم يذكر ترهيبا وتخويفا، والجملة على هذا تعليل لنفي الجزاء، وقيل: المراد أن وعد الله بذلك اليوم حق، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه لما قيل: يا أيها الناس اتقوا يوما إلخ، سأل سائل أن يكون ذلك اليوم؟ فقيل: إن وعد الله حق أي نعم، يكون لا محالة لمكان الوعد به، فهو جواب على أبلغ وجه، وإليه يشير كلام الإمام، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأن تلهيكم بلذاتها عن الطاعات، ولا يغرنكم بالله الغرور أي الشيطان كما روي عن ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، ، ومجاهد بأن يحملكم على المعاصي بتزيينها لكم، ويرجيكم التوبة والمغفرة منه تعالى، أو يذكر لكم أنها لا تضر من سبق في علم الله تعالى موته على الإيمان، وأن تركها لا ينفع من سبق في العلم موته على الكفر، وعن والضحاك كل شيء غرك حتى تعصي الله تعالى وتترك ما أمرك سبحانه به فهو غرور شيطانا أو غيره، وإلى ذلك ذهب أبي عبيدة: قال: الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان. الراغب
وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين، وبالدنيا لما قيل: الدنيا تغر وتضر وتمر، وأصل الغرور من غر فلانا، إذا أصاب غرته أي غفلته، ونال منه ما يريد، والمراد به الخداع، والظاهر أن ( بالله ) صلة ( يغرنكم )، أي لا يخدعنكم بذكر شيء من شؤونه تعالى يجسركم على معاصيه سبحانه.
وجوز أن يكون قسما، وفيه بعد، وقرأ ابن أبي إسحاق، ، وابن أبي عبلة «تغرنكم» بالنون الخفيفة، [ ص: 109 ] وقرأ ويعقوب، سمال بن حرب، وأبو حيوة «الغرور» بضم الغين، وهو مصدر، والكلام من باب جد جده، ويمكن تفسيره بالشيطان يجعله نفس الغرور مبالغة.