النبي إلخ، وهلم جرا إلى آخر السورة تفصيلا لقول الحق والاهتداء إلى [ ص: 151 ] السبيل القويم انتهى، فتأمل ولا تغفل، النبي أولى بالمؤمنين أي أحق وأقرب إليهم من أنفسهم أو أشد ولاية ونصرة لهم منها، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس فإنها إما أمارة بالسوء، وحالها ظاهر أولا، فقد تجهل بعض المصالح، وتخفى عليها بعض المنافع، وأطلقت الأولوية ليفيد الكلام أولويته عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور، ويعلم من كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم كونه عليه الصلاة والسلام أولى بهم من كل من الناس.
وقد أخرج وغيره عن البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبي هريرة النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه» «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم:
ولا يلزم عليه كون الأنفس هنا مثلها في قوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم [النساء: 29]، لأن إفادة الآية المدعى على الظاهر ظاهرة أيضا، وإذا كان صلى الله تعالى عليه وسلم بهذه المثابة في حق المؤمنين يجب عليه أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه عليه الصلاة والسلام عليهم أنفذ من حكمها، وحقه آثر لديهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وسبب نزول الآية على ما قيل ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج فقال أناس منهم: نستأذن آباءنا وأمهاتنا، فنزلت.
ووجه دلالتها على السبب أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى، ولا حاجة إلى حمل أنفسهم عليه على خلاف المعنى المتبادر، كما أشرنا إليه آنفا، وأزواجه أمهاتهم أي منزلات منزلة أمهاتهم في تحريم النكاح، واستحقاق التعظيم، وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن، والخلوة بهن وإرثهن ونحو ذلك فهن كالأجنبيات، وفرع على هذا القسطلاني في المواهب: أنه لا يقال لبناتهن: أخوات المؤمنين في الأصح، والطبرسي وهو شيعي: أنه لا يقال لإخوانهن: أخوال المؤمنين، ولا يخفى أنه يسر حسوا بارتغاء، وفي المواهب: أن في جواز النظر إليهن وجهين أشهرهما المنع، ولكون وجه الشبه مجموع ما ذكر قالت رضي الله عنها لامرأة قالت لها يا أمه: (أنا أم رجالكم لا أم نسائكم) أخرجه عائشة ابن سعد، ، وابن المنذر في سننه عنها، ولا ينافي هذا استحقاق التعظيم منهن أيضا. والبيهقي
وأخرج عن ابن سعد، رضي الله تعالى عنها أنها قالت: أنا أم الرجال منكم، والنساء)، وعليه يكون ما ذكر وجه الشبه بالنسبة إلى الرجال، وأما بالنسبة إلى النساء فهو استحقاق التعظيم، والظاهر أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلى الله تعالى عليه وسلم من طلقها، ومن لم يطلقها، وروى ذلك أم سلمة عن ابن أبي حاتم، ، فيثبت الحكم لكلهن، وهو الذي نص عليه الإمام مقاتل وصححه في الروضة، وقيل: لا يثبت الحكم لمن فارقها عليه الصلاة والسلام في الحياة كالمستعيذة، والتي رأى بكشحها بياضا، وصحح الشافعي إمام الحرمين، والرافعي في الصغير تحريم المدخول بها فقط، لما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن رضي الله تعالى عنه، فهم عمر برجمه، فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها فكف، وفي رواية: أنه رضي الله تعالى عنه هم برجمها، فقالت له: ولم هذا؟ وما ضرب علي حجاب، ولا سميت للمسلمين أما، فكف عنها، وذكر في المواهب: أن في حل من اختارت منهن الدنيا للأزواج طريقين، أحدهما طرد الخلاف، والثاني القطع بالحل، واختار هذا الإمام [ ص: 152 ] عمر والغزالي، وحكي القول بأن المطلقة لا يثبت لها هذا الحكم عن الشيعة، وقد رأيت في بعض كتبهم نفي الأمومة عن رضي الله تعالى عنها قالوا: لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فوض إلى عائشة كرم الله تعالى وجهه أن يبقي من يشاء من أزواجه، ويطلق من يشاء منهن بعد وفاته وكالة عنه عليه الصلاة والسلام، وقد طلق رضي الله تعالى عنه علي يوم الجمل، فخرجت عن الأزواج، ولم يبق لها حكمهن، وبعد أن كتبت هذا اتفق لي أن نظرت في كتاب ألفه عائشة سليمان بن عبد الله البحراني عليه من الله تعالى ما يستحق في مثالب جمع من الصحابة حاشى رضي الله تعالى عنهم، فرأيت ما نصه:
روى أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن سعد بن عبد الله أنه سأل القائم المنتظر وهو طفل في حياة أبيه، فقال له: يا مولانا وابن مولانا، روي لنا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه حتى أنه بعث في يوم الجمل رسولا إلى علي وقال: إنك أدخلت الهلاك على الإسلام وأهله بالغش الذي حصل منك، وأوردت أولادك في موضع الهلاك بالجهالة، فإن امتنعت وإلا طلقتك، فأخبرنا يا مولانا عن معنى الطلاق الذي فوض حكمه رسول صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أمير المؤمنين، فقال: إن الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فخصهن بشرف الأمهات فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة أبا الحسن إن هذا الشرف باق ما دمنا على طاعة الله تعالى، فأيتهن عصت الله تعالى بعدي بالخروج عليك فطلقها من الأزواج وأسقطها من شرف أمهات المؤمنين، ثم قال: وروى الطبرسي أيضا في الاحتجاج عن أنه قال: لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج الباقر بالنبل قال عائشة كرم الله تعالى وجهه: والله ما أراني إلا مطلقها، فأنشد الله تعالى رجلا سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي لما قام فشهد فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا بذلك الحديث، ورأيت في بعض الأخبار التي لا تحضرني الآن ما هو صريح في وقوع الطلاق اهـ، ما قاله علي البحراني عامله الله تعالى بعدله. وهذا لعمري من السفاهة والوقاحة والجسارة على الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بمكان، وبطلانه أظهر من أن يخفى، وركاكة ألفاظه تنادي على كذبه بأعلى صوت، ولا أظنه قولا مرضيا عند من له أدنى عقل منهم، فلعن الله تعالى من اختلقه، وكذا من يعتقده، وأخرج ، الفريابي والحاكم، وابن مردويه، في سننه، عن والبيهقي أنه كان يقرأ «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم» ابن عباس
وأخرج عن ابن أبي حاتم، أنه قال: كان في الحرف الأول «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم» وفي مصحف عكرمة رضي الله تعالى عنه كما روى أبي ، عبد الرزاق ، وغيرهما «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم»، وإطلاق الأب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه سبب للحياة الأبدية، كما أن الأب سبب للحياة أيضا بل هو عليه الصلاة والسلام أحق بالأبوة منه، وعن وابن المنذر : كل نبي أب لأمته، ومن هنا قيل في قول مجاهد لوط: هؤلاء بناتي، أنه أراد المؤمنات، ووجهه ما ذكر، ويلزم من هذه الأبوة على ما قيل أخوة المؤمنين.
ويعلم مما روي عن أن الأبوة ليست من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، وهذا ليس كأمومة أزواجه، فإنها على ما في المواهب من الخصوصيات فلا يحرم مجاهد على أحد من أممهم، نكاح أزواج من عداه صلى الله تعالى عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام من بعدهم وأولو الأرحام أي ذوو القرابات الشاملون للعصبات [ ص: 153 ] لا ما يقابلهم بعضهم أولى ببعض في النفع بميراث، وغيره من النفع المالي، أو في التوارث، ويؤيده سبب النزول الآتي ذكره، في كتاب الله أي فيما كتبه في اللوح، أو فيما أنزله، وهي آية المواريث أو هذه الآية، أو فيما كتبه سبحانه وفرضه وقضاه من المؤمنين والمهاجرين صلة (لأولى)، فمدخول ( من ) هو المفضل عليه، وهي ابتدائية مثلها في قولك:
زيد أفضل من عمرو، أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى في كل نفع، أو بالميراث من المؤمنين بحق الدين، ومن المهاجرين بحق الهجرة، وقال : يجوز أن يكون بيانا (لأولو الأرحام)، أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب، والأول هو الظاهر، وكان في الزمخشري المدينة توارث بالهجرة، وبالموالاة في الدين ذلك بآية آخر الأنفال، أو بهذه الآية، وقيل: بالإجماع، وأرادوا كشفه عن الناسخ وإلا فهو لا يكون ناسخا كما لا يخفى، ورفع ( بعضهم ) يجوز أن يكون على البدلية وأن يكون على الابتداء، ( وفي كتاب ) متعلق (بأولى)، ويجوز أن يكون حالا والعامل فيه معنى ( أولى )، ولا يجوز على ما قال أبو البقاء أن يكون حالا من ( أولو ) للفصل بالخبر، ولأنه لا عامل إذا، وقوله تعالى: إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا إما استثناء متصل من أعم ما تقدر الأولوية فيه من النفع، كأنه قيل: القريب أولى من الأجنبي من المؤمنين والمهاجرين في كل نفع من ميراث وصدقة وهدية ونحو ذلك إلا في الوصية، فإنها المرادة بالمعروف فالأجنبي أحق بها من القريب الوارث فإنها لا تصح لوارث، وإما استثناء منقطع بناء على أن المراد بما فيه الأولوية هو التوارث فيكون الاستثناء من خلاف الجنس المدلول عليه بفحوى الكلام، كأنه قيل: لا تورثوا غير أولي الأرحام، لكن فعلكم إلى أوليائكم من المؤمنين والمهاجرين الأجانب معروفا وهو أن توصوا لمن أحببتم منهم بشيء جائز، فيكون ذلك له بالوصية لا بالميراث، ويجوز أن يكون المعروف عاما لما عدا الميراث، والمتبادر إلى الذهن انقطاع الاستثناء، واقتصر عليه أبو البقاء، ومكي، وكذا الطبرسي، وجعل المصدر مبتدأ محذوف الخبر كما أشرنا إليه.
وتفسير الأولياء بمن كان من المؤمنين والمهاجرين هو الذي يقتضيه السياق، فهو من وضع الظاهر موضع الضمير بناء على أن ( من ) فيما تقدم للابتداء لا للبيان، وأخرج ، وغيره عن ابن جرير تفسيره بالذين والى بينهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من مجاهد المهاجرين والأنصار، وأخرج ابن المنذر، ، وابن جرير . عن وابن أبي حاتم محمد بن الحنفية أنه قال: نزلت هذه الآية في جواز وأخرجوا عن وصية المسلم لليهودي والنصراني، أنه قال: الأولياء القرابة من أهل الشرك، والمعروف الوصية، وحكي في البحر عن جماعة منهم قتادة ، الحسن أن وعطاء: المؤمن والكافر، وأن الأولياء يشمل القريب والأجنبي وقد أجازها للكافر القريب، وكذا الأجنبي جماعة من الفقهاء المعروف أعم من الوصية. والإمامية يجوزونها لبعض ذوي القرابة الكفار، وهم الوالدان، والولد لا غير، وعدي (تفعلوا) بإلى لتضمنه معنى الإيصال والإسداء كأنه قيل: إلا أن تفعلوا مسدين إلى أوليائكم معروفا، والنهي عن اتخاذ الكفار أولياء لا يقتضي النهي عن الإحسان إليهم والبر لهم. كان ذلك أي ما ذكر في الآيتين أعني ( ادعوهم لآبائهم، والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) وجوز أن يكون إشارة إلى ما سبق من أول السورة إلى هنا، أو إلى ما بعد قوله تعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين أو إلى ما ذكر في الآية الأخيرة وفيه بحث في الكتاب أي في اللوح، أو القرآن، وقيل: في التوراة مسطورا أي مثبتا بالإسطار، وعن [ ص: 154 ] أنه قال في بعض القراءات: كان ذلك عند الله مكتوبا أن لا يرث المشرك المؤمن فلا تغفل. قتادة