والأمد غاية الشيء ومنتهاه، والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول والمراد هنا الغاية الطويلة، وقيل: مقدار العمر، وقيل: قدر ما يذهب به من المشرق إلى المغرب، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة، ولعله الأظهر ، فالتمني هنا من قبيل التمني في قوله تعالى: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين وهذا الذي ذكر في نظم الآية هو ما ذهب إليه كثير من أئمة التفسير، وقال إنه الظاهر في بادئ الرأي مبني على أمر اختلف النحاة في جوازه وهو كون الفاعل ضميرا عائدا على ما اتصل به معمول الفعل المتقدم نحو غلام هند ضربت هي، والآية من هذا القبيل على ذلك التخريج لأن الفاعل ب (يود) عائد على شيء اتصل بمعمول (يود) وهو يوم لأنه مضاف إلى أبو حيان: تجد كل نفس ، والتقدير: تود كل نفس يوم وجدانها ما عملت من خير وشر محضرا لو أن بينها الخ; وجمهور البصريين على جواز ذلك وهو الصحيح، ومنه قوله:
أجل المرء يستحث ولا يد ري إذا يبتغي حصول الأماني
أي المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يدري، والفراء وغيره من البصريين على عدم الجواز لأن هذا المعمول فضلة فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل به يخرجه عن ذلك لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ولا يخفى وهنه. والأخفشوفي الآية أوجه أخر:
منها: أن ناصب الظرف قدير ، ولا يرد عليه تقييد قدرته سبحانه بذلك اليوم لأنه إذ قدر في مثله علم قدرته في غيره بالطريق الأولى.
ومنها: أنه منصوب بالمصير أو بالذكر أو ب (يحذركم) مقدرا فيكون مفعولا به أو بالعقاب المضاف الذي أشعر به كلام رضي الله تعالى عنه، وصرحوا بأنه على تقدير تعلقه بنحو اذكروا يجوز في ابن عباس ما عملت أن يكون مبتدأ خبره جملة تود وأن يكون معطوفا على (ما) الأولى، وجملة تود إما مستأنفة جوابا لسؤال مقدر، كأن سائلا قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم: فماذا يكون إذ ذاك؟ فقيل: تود لو أن بينها الخ، أو حال من فاعل (تجد) أي اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضرا، وأدت تباعد ما بينها وبينه.
وجوز أن يكون حالا من ضمير عملت لقربه، واعترض بأن الوداد إنما هو وقت وجدان العمل حاضرا في الآخرة لا وقت العمل في الدنيا، والحالية من ضمير عملت تقتضيه فلا وجه لها، وأجيب بأنها حال مقدرة على معنى: يوم تجد كل نفس كذا مقدرا وداده، أي حال كونه ثابتا في قدرنا وداده، فالوداد وإن لم يكن مقارنا للعمل إلا أن كون الوداد ثابتا في قدر الله تعالى وقضائه مقارن له، وهذا مثل ما قيل في قوله تعالى: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ، واعترض أيضا بأنه على تقدير الحالية من ضمير عملت يلزم تخصيص العمل، والمقام لا يناسب، وأجيب بأنه ليس القصد التخصيص بل بيان سوء حالهم وحسرتهم ولا بأس به، وجوز أيضا أن تكون (ما) في " ما عملت من سوء " [ 30 ] شرطية وإلى ذلك مال أبو البقاء ورفع السفاقسي تود ليس بمانع لأنه إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا جاز في الجزاء الرفع والجزم من غير تفرقة بين إن الشرطية وأسماء الشرط، واعترض بأن رفع المضارع في الجزاء شاذ كرفعه في الشرط كما نص عليه وشهد به الاستعمال حيث لم يوجد إلا في قول المبرد زهير:
(وإن) أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
ولا بالذي إن بان منه حبيبه يقول ويخفي الصبر إني لجازع
إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا في الجهد أدرك منهم طيب أخبار
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المتنظر
ويحذركم الله نفسه قيل: ذكره أولا للمنع عن موالاة الكفار وهنا حثا على عمل الخير والمنع من عمل السوء مطلقا. وجوز أن يكون معطوفا على تود أي تهاب من ذلك اليوم ومن العمل السيء ويحذركم الله نفسه بإظهار قهاريته وهو مما لا يكاد ينبغي أن يخرج الكتاب العزيز عليه، وأهون منه عطفه على (تجد) والظرف معمول ل (اذكروا) أي اذكروا ذلك اليوم واذكروا يوم يحذركم الله نفسه بإظهار كبريائه وقهاريته، وقد يقال: إنه تكرار لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده.
وقوله تعالى: والله رءوف بالعباد من أن تحذيره تعالى نفسه من رحمته الواسعة للعباد لأنهم إذا عرفوه وحذروه جرهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه وذلك هو الفوز العظيم، أو من أن تحذيره سبحانه ليس مبنيا على تناسي صفة الرحمة بل هو متحقق مع تحققها أيضا. [ ص: 129 ]
فالجملة على الأول تذييل وعلى الثاني حال، وإلى الأول يشير كلام رضي الله تعالى عنه، و أل في العباد للاستغراق وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة وإذهاب الغفلة بتوجه الذهن إلى هذا الحكم أتم توجه. الحسن