تجلببت من سواد الليل جلبابا
وقيل هو ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، والإدناء التقريب يقال أدناني أي قربني وضمن معنى الإرخاء أو السدل [ ص: 89 ] ولذا عدي بعلى على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين، فتأمل.
ونقل عن أبو حيان أنه قال: أي يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ثم قال: أراد بالانضمام معنى الإدناء، وفي الكشاف معنى الكسائي يدنين عليهن يرخين عليهن يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدني ثوبك على وجهك، وفسر ذلك ب يسدلن عليهن، وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى، والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن، وقيل: على رؤوسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه. سعيد بن جبير
واختلف في كيفية هذا التستر فأخرج ابن جرير وغيرهما عن وابن المنذر محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن فرفع ملحفة كانت عليه فتقنع بها وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، وقال : تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين، وقال السدي ابن عباس : تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه،وفي رواية أخرى عن الحبر رواها وقتادة ابن جرير وابن أبي حاتم تغطي وجهها من فوق رأسها بالجلباب وتبدي عينا واحدة. وابن مردويه
وأخرج وجماعة عن عبد الرزاق قالت: لما نزلت هذه الآية أم سلمة يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وأخرج ابن مردويه عن قالت: رحم الله تعالى نساء عائشة الأنصار لما نزلت يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان.
ومن للتبعيض ويحتمل ذلك على ما في الكشاف وجهين، أحدهما أن يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب وإدناء ذلك عليهن أن يلبسنه على البدن كله، وثانيهما أن يكون المراد بالبعض جزءا منه وإدناء ذلك عليهن أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن، والنساء مختصات بحكم العرف بالحرائر، وسبب النزول يقتضيه وما بعد ظاهر فيه فإماء المؤمنين غير داخلات في حكم الآية.
وعن رضي الله تعالى عنه أن غير الحرة لا تتقنع، أخرج عمر عن ابن أبي شيبة قلابة قال: كان لا يدع في خلافته أمة تتقنع ويقول: القناع للحرائر لكيلا يؤذين، وأخرج هو عمر بن الخطاب عن وعبد بن حميد رضي الله تعالى عنه قال: رأى أنس رضي الله تعالى عنه جارية مقنعة فضربها بدرته وقال: ألقي القناع لا تتشبهي بالحرائر، وجاء في بعض الروايات أنه رضي الله تعالى عنه قال لأمة رآها مقنعة: يا لكعاء أتشبهين بالحرائر؟ عمر
وقال : نساء المؤمنين يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح انتهى، وأنت تعلم أن وجه الحرة عندنا ليس بعورة فلا يجب ستره ويجوز النظر من الأجنبي إليه إن أمن الشهوة مطلقا وإلا فيحرم، وقال أبو حيان القهستاني: منع النظر من الشابة في زماننا ولو بلا شهوة وأما حكم أمة الغير ولو مدبرة أو أم ولد فكحكم المحرم فيحل النظر إلى رأسها ووجهها وساقها وصدرها وعضدها إن أمن شهوته وشهوتها. وظاهر الآية لا يساعد على ما ذكر في الحرائر فلعلها محمولة على طلب تستر تمتاز به الحرائر عن الإماء أو العفائف مطلقا عن غيرهن، فتأمل. [ ص: 90 ]
و يدنين يحتمل أن يكون مقول القول وهو خبر بمعنى الأمر وأن يكون جواب الأمر على حد قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة [إبراهيم: 31] وفي الآية رد على من زعم من الشيعة أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له من البنات إلا صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم وأما فاطمة رقية وأم كلثوم فربيبتاه عليه الصلاة والسلام.
ذلك أي ما ذكر من الإدناء والتستر أدنى أي أقرب أن يعرفن أي يميزن عن الإماء اللاتي هن مواقع تعرضهم وإيذائهم، ويجوز إبقاء المعرفة على معناها أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر فلا يؤذين من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن بناء عن أنهن إماء.
وقال : أي ذلك أولى أن يعرفن لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن ولا يلقين بما يكرهن لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها، وهو تفسير مبني على رأيه في النساء، وأيا ما كان فقد قال أبو حيان السبكي في طبقاته: إن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن وإن لم يفعله السلف لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا فيعمل بأقوالهم وهو استنباط لطيف.
وكان الله غفورا كثير المغفرة فيغفر سبحانه ما عسى يصدر من الإخلال بالتستر، وقيل: يغفر ما سلف منهن من التفريط.
وتعقب بأنه إن أريد التفريط في أمر التستر قبل نزول الآية فلا ذنب قبل الورود في الشرع وإن أريد التفريط في غير ذلك ليكون وكان الله كثير المغفرة فيغفر ما سلف من ذنوبهن وارتكابهن ما نهى عنه مطلقا فهو غير مناسب للمقام، وجوز أن يراد التفريط في أمر التستر والأمر به معلوم من آية الحجاب التزاما وهو كما ترى.
رحيما كثير الرحمة فيثيب من امتثل أمره منهن بما هو سبحانه أهله، وقيل: رحيما بهن بعد التوبة عن الإخلال بالتستر بعد نزول الآية، وقيل: رحيما بعباده حيث راعى سبحانه في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات.