قل بلى رد لكلامهم وإثبات لما نفوه على معنى ليس الأمر إلا إتيانها، وقوله تعالى: وربي لتأتينكم تأكيد له على أتم الوجوه وأكملها، وجاء القسم بالرب للإشارة إلى أن إتيانها من شؤون الربوبية، وأتي به مضافا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ليدل على شدة القسم، وروى هارون كما قال عن طليق قال: سمعت أشياخنا يقرؤون «ليأتينكم» بالياء التحتية وخرجت على أن الفاعل ضمير البعث لأن مقصودهم من نفي إتيان الساعة أنهم لا يبعثون، وقيل: الفاعل ضمير الساعة على تأويلها باليوم أو الوقت، وتعقبه ابن جني بأنه بعيد إذ لا يكون مثل هذا إلا في الشعر نحو: أبو حيان
ولا أرض أبقل إبقالها
وقوله تعالى: عالم الغيب بدل من المقسم به على ما ذهب إليه الحوفي ، وجوز أن يكون عطف بيان، وأجاز وأبو البقاء أن يكون صفة له. أبو البقاء
وتعقب بأنه صفة مشبهة وهي كما ذكره في الكتاب لا تتعرف بالإضافة إلى معرفة والجمهور على أنها تتعرف بها ولذا ذهب جمع من الأجلة إلى أنه صفة ووصف سبحانه بإحاطة العلم إمدادا للتأكيد وتشديدا له إثر تشديد، فإن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر وكلما كان المستشهد به أعلى كعبا وأبين فضلا وأرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، وخص هذا الوصف بالذكر من بين الأوصاف مع أن كل وصف يقتضي العظمة يتأتى به ذلك لما أن له تعلقا خاصا بالمقسم عليه، فإنه أشهر أفراد الغيب في الخفاء ففيه مع رعاية التأكيد حسن الإقسام على منوال وثناياك إنها إغريض، كأنه قيل: وربي العالم بوقت قيامها لتأتينكم، وفيه إدماج أن لا كلام في ثبوتها. سيبويه
وقال صاحب الفرائد: جيء بالوصف المذكور لأن إنكارهم البعث باعتبار أن الأجزاء المتفرقة المنتشرة يمتنع اجتماعها كما كانت يدل عليه قوله تعالى: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم [ق: 4] الآية، فالوصف بهذه الأوصاف رد لزعمهم الاستحالة وهو أن من كان علمه بهذه المثابة كيف يمتنع منه ذلك انتهى، واستحسنه الطيبي ، وقال في البحر: أتبع القسم بقوله تعالى: عالم الغيب وما بعده ليعلم أن إتيانها من الغيب الذي تفرد به عز وجل، وما ذكر أولا أبعد مغزى، وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أن لا يبقى للمعاندين عذر ما أصلا فإنهم كانوا يعرفون أمانته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن وصمة الكذب فضلا عن اليمين الفاجرة وإنما لم يصدقوه عليه الصلاة والسلام مكابرة، وغفل صاحب الفرائد عن هذه الفائدة فقال: اقتضى المقام اليمين لأن من أنكر ما قيل له فالذي وجب بعد ذلك إذا أريد إعادة القول له أن يكون مقترنا باليمين وإلا كان خطأ بالنظر إلى علم المعاني وإن كان صحيحا بالنظر إلى العربية والنحو وقد يغفل الأريب.
وقرأ نافع وابن عامر ورويس وسلام والجحدري وقعنب «عالم» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عالم الغيب هو، وجوز هو الحوفي أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبره. [ ص: 106 ] وقرأ وأبو البقاء ابن وثاب والأعمش وحمزة «علام» بصيغة المبالغة والخفض، وقرئ «عالم» بالرفع يكون بلا مبالغة «الغيوب» بالجمع. والكسائي
لا يعزب عنه أي لا يبعد، ومنه روض عزيب بعيد من الناس، وقرأ بكسر الزاي. الكسائي
مثقال ذرة مقدار أصغر نملة في السماوات ولا في الأرض أي كائنة فيهما ولا أصغر من ذلك أي مثقال ذرة ولا أكبر أي منه، والكلام على حد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ورفعهما على الابتداء والخبر قوله تعالى: إلا في كتاب مبين هو اللوح المحفوظ عند الأكثرين.
والجملة مؤكدة لنفي العزوب، وقرأ الأعمش وقتادة وأبو عمرو في رواية عنهما (ولا أصغر ولا أكبر) بالنصب على أن لا لنفي الجنس عاملة عمل إن وما بعدها اسمها منصوب بها لأنه شبيه بالمضاف ولم ينون للوصف ووزن الفعل فليس ذلك نحو لا مانع لما أعطيت، والخبر هو الخبر على قراءة الجمهور، وقال ونافع : لا لنفي الجنس وهي وما بني معها مبتدأ على مذهب أبو حيان ، والخبر سيبويه إلا في كتاب وما ذكرناه في توجيه القراءتين هو الذي ذهب إليه كثير من الأجلة، وقيل: إن ذلك معطوف في قراءة الرفع على مثقال وفي القراءة الأخرى على ذرة والفتحة فيه نيابة عن الكسرة للوصف والوزن، وإليه ذهب ، واستشكل بأنه يصير المعنى عليه إذا كان الاستثناء متصلا كما هو الأصل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين فإنه يعزب عنه فيه، وفساده ظاهر، والتزم أبو البقاء السراج البلقيني على تقدير العطف المذكور أن يكون الاستثناء من، محذوف والتقدير ولا شيء إلا في كتاب، ثم قال: ولا بدع في حذف ما قدر لدلالة الكلام عليه، ويحصل من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى بكل معلوم وأن كل شيء مكتوب في الكتاب، وقيل العطف على ما ذكر والاستثناء منقطع والمعنى لا يعزب عنه تعالى شيء من ذلك لكن هو في كتاب، وقيل العطف على ذلك والكلام نهج قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
فالمعنى إن كان يعزب عنه شيء فهو الذي في كتاب مبين، لكن الذي في الكتاب لا يعزب عنه فلا يعزب عنه شيء، وفيه من البعد ما فيه، وقيل: إن المراد بقوله تعالى: لا يعزب إلخ أنه تعالى عالم به.
والمراد بقوله سبحانه: إلا في كتاب نحو ذلك لأن الكتاب هو علم الله تعالى، والمعنى وما يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا يعلمه ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في علمه فيكون نظير قوله: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب [الأنعام: 59] وفيه أنه أبعد مما قبله، وقيل: يعزب بمعنى يظهر ويذهب والعطف على ما سمعت، والمعنى لم يظهر شيء عن الله تعالى بعد خلقه له إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، وتلخيصه كل مخلوق مكتوب، وفيه أن هذا المعنى ل يعزب غير معروف وإنما المعروف ما تقدم، نعم قال الصغاني في (العباب) قال: أبو سعيد الضرير يقال ليس لفلان امرأة تعزبه أي تذهب عزبته بالنكاح، مثل قولك تمرضه أي تقوم عليه في مرضه، ثم قال الصغاني: والتركيب يدل على تباعد وتنح فتفسيره بالظهور بعيد ولئن سلمنا قربه فلأي شيء جمع بين الظهور والذهاب، وقيل إلا بمعنى الواو وهو مقدر في الكلام، والكلام قد تم عند أكبر كأنه قيل: لا يعزب عنه ذلك وهو في كتاب، ومجيء إلا بمعنى الواو ذهب إليه من البصريين الأخفش من الكوفيين. [ ص: 107 ] والفراء
وخرج عليه قوم: يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم [النجم: 32] و خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك [هود: 107] وقد حكى هذا القول في نظير الآية، ثم قال: وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون إلا بمعنى الواو كأنه لم يقف على قول مكي وهو من رؤساء نحاة الأخفش البصرة أو لم يعتبره فلذا قال جميع البصريين، وقد كثر الكلام في هذا الوجه وارتضاه السراج البلقيني وأنا لا أراه مرضيا وإن أوقد له ألف سراج.
وقيل العطف على ما سمعت وضمير ( عنه ) للغيب فلا إشكال إذ المعنى حينئذ لا يبعد عن غيبه شيء إلا ما كان في اللوح لبروزه من الغيب إلى الشهادة واطلاع الملأ الأعلى عليه، وتعقب بأن المعنى لا يساعده لأن الأمر الغيبي إذا برز إلى الشهادة لم يعزب عنه بل بقي في الغيب على ما كان عليه مع بروزه، ومعناه أن كونه في اللوح المحفوظ كناية عن كونه من جملة معلوماته تعالى وهي إما مغيبة وإما ظاهرة، وكل مغيب سيظهر وإلا كان معدوما لا مغيبا، وظهوره وقت ظهوره لا يرفع كونه مغيبا فلا يكون استثناء متصلا، ألا ترى أنك لو قلت علم الساعة مغيب عن الناس إلا علمهم بها حين تقوم ويشاهدونها، لم يكن هذا الاستثناء متصلا، كذا قيل فتأمل ولا تغفل، وأنت تعلم أن هذا الوجه على فرض عدم ورود ما ذكر عليه ضعيف لأن الظاهر الذي يقتضيه قوله تعالى: وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء الآية رجوع الضمير إلى الله عز وجل. والذي ذهب إليه أن الكتاب ليس هو اللوح وليس الكلام إلا كناية عن ضبط الشيء والتحفظ به. أبو حيان
وقرأ رضي الله تعالى عنهما زيد بن علي ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بكسر الراءين، وخرج على أنه نوى مضافا إليه والتقدير ولا أصغره ولا أكبره، و من ذلك ليس متعلقا بأفعل بل هو تبيين لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظا فبين بقوله تعالى من ذلك أي أعني من ذلك، ولا يخفى أنه توجيه شذوذ.