وتعقب بأنه إن أريد أن كلا منها فضل لا يوجد في سائر الناس فعدم مثل ملكه وصوته محل شبهة، وإن أريد المجموع من حيث هو نفيه أنه غير موجود في الأنبياء أيضا فلا وجه لتخصيصه بهذا الوجه، وأنا أرى الفضل لتفسير الفضل بالإحسان وتنكيره للتفخيم.
ومنا أي بلا واسطة لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية كما في قوله تعالى: وعلمناه من لدنا علما وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن في النفس عند وروده فضل تمكن، وذكر شؤون داود وسليمان عليهما السلام هنا لمناسبة ذكر المنيب في [ ص: 113 ] قوله تعالى: إن في ذلك لآية لكل عبد منيب كما أشرنا إليه.
وقال : مناسبة قصتيهما عليهما السلام لما قبلها هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته في زعمهم فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره إذ طفحت ببعضه أخبارهم وأشعارهم، وقيل: ذكر سبحانه نعمته عليهما احتجاجا على ما منح نبينا صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا وكذا فلما فرغ التمثيل له عليه الصلاة والسلام رجع التمثيل لهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو. أبو حيان
يا جبال أوبي معه أي سبحي معه قاله ابن عباس وقتادة ، وأخرجه وابن زيد عن ابن جرير أبي ميسرة إلا أنه قال: معناه ذلك بلغة الحبشة، والظاهر أنه عربي من التأويب، والمراد رجعي معه التسبيح وردديه، وقال : إن أصل ماضيه آب وضعف للمبالغة، وتعقبه في البحر بقوله ويظهر أن التضعيف للتعدية لأن آب بمعنى رجع لازم صلته اللام فعدي بالتضعيف إذ شرحوه بقولهم رجعي معه التسبيح. ابن عطية
يروى أنه عليه السلام كان إذا سبح سبحت الجبال مثل تسبيحه بصوت يسمع منها، ولا يعجز الله عز وجل أن يجعلها بحيث تسبح بصوت يسمع وقد سبح الحصى في كف نبينا عليه الصلاة والسلام وسمع تسبيحه وكذا في كف رضي الله تعالى عنه، ولا يبعد على هذا أن يقال: إنه تعالى خلق فيها الفهم أولا فناداها كما ينادى أولو الفهم وأمرها، وقال بعضهم: إنه سبحانه نزل الجبال منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته سبحانه، ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية حيث نادى الجبال وأمرها، وقيل: المراد بتأويبها حملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها، وفيه مع كونه خلاف المأثور أن ( معه ) يأباه، وأيضا لا اختصاص له عليه السلام بتأويب الجبال بهذا المعنى حتى يفضل به أو يكون معجزة له، وقيل: كان عليه السلام ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تسعده بأصدائها. أبي بكر
وفيه أن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما قام عليه البرهان، والله تعالى نادى الجبال وأمرها أن تؤوب معه، وأيضا أي اختصاص له عليه الصلاة والسلام بذلك ولصوت كل أحد صدى عند الجبال.
وعن أن معنى الحسن أوبي معه سيري معه أين سار، والتأويب سير النهار كأن الإنسان يسير الليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده، ومن ذلك قول تميم بن مقبل:
لحقنا بحي أوبوا السير بعد ما دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقول آخر:
يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب
وأورد عليه أن الجبال أوتاد الأرض ولم ينقل سيرها مع داود عليه السلام أو غيره، وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه، فكانت إذا سبح سبحت وإذا ناح ناحت وإذا قرأ الزبور قرأت.
وتعقب بأنه لم يعرف التأويب بمعنى التصرف في لغة العرب ، وقيل: المعنى ارجعي إلى مراده فيما يريد من حفر واستنباط أعين واستخراج معدن ووضع طريق، والجملة معمولة لقول مضمر، أي قولنا يا جبال على أنه بدل من فضلا بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو قلنا يا جبال على أنه بدل من آتينا وجوز كونه بدلا من فضلا بناء على أنه [ ص: 114 ] يجوز إبدال الجملة من المفرد، وجوز الاستئناف وليس بذاك. أبو حيان
وقرأ ابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق «أوبي» بضم الهمزة وسكون الواو أمر من الأوب وهو الرجوع، وفرق بينهما بأن الأوب لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة والرجوع يقال فيه وفي غيره. الراغب
والمعنى على هذه القراءة عند الجمهور ارجعي معه في التسبيح وأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك، ومنه يا خيل الله اركبي وكذا مآرب أخرى [طه: 18] وقد جاء ذلك في جمع من يعقل من المؤنث قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي
لكن هذا قليل.
والطير بالنصب وهو عند بإضمار فعل تقديره وسخرنا له الطير، وحكى أبي عمرو بن العلاء عنه أن ذاك بالعطف على أبو عبيدة فضلا ولا حاجة إلى الإضمار لأن إيتاءها إياه عليه السلام تسخيرها له، وذكر الطيبي أن ذلك كقوله: علفتها تبنا وماء باردا، وقال : بالعطف أيضا إلا أنه قدر مضافا أي وتسبيح لطير ولا يحتاج إليه، وقال الكسائي : الطير معطوف على محل سيبويه جبال نحو قوله: ألا يا زيد سيرا، بنصب والضحاك ، ومنعه بعض النحويين للزوم دخول يا على المنادى المعرف بأل. الضحاك
والمجيز يقول: رب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا، وقال : هو منصوب على أنه مفعول معه، وتعقبه الزجاج بأنه لا يجوز لأن قبله ( معه ) ولا يقتضي اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف فكما لا يجوز جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف كذلك هذا، وقال أبو حيان الخفاجي : لا يأباه ( معه ) سواء تعلق ب أوبي على أنه ظرف لغو أو جعل حالا لأنهما معمولان متغايران، إذ الظرف والحال غير المفعول معه وكل منها باب على حده وإنما الموهم لذلك لفظ المعية، فما اعترض به غير متوجه وإن ظن كذلك، وأقبح من الذنب الاعتذار حيث أجيب بأنه يجوز أن يقال حذفت واو العطف من قوله تعالى: أبو حيان والطير استثقالا لاجتماع الواوين أو اعتبر تعلق الثاني بعد تعلق الأول.
وقرأ السلمي وابن هرمز وأبو يحيى وأبو نوفل ويعقوب وجماعة من أهل وابن أبي عبلة المدينة في رواية «والطير» بالرفع، وخرج على أنه معطوف على وعاصم جبال باعتبار لفظه وحركته لعروضها تشبه حركة الإعراب ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وقيل معطوف على الضمير المستتر في أوبي وسوغ ذلك الفصل بالظرف، وقيل: هو بتقدير ولتؤوب الطير نظير ما قيل في قوله تعالى: ( اسكن أنت وزوجك الجنة ) [البقرة: 35، الأعراف: 19] .
وقيل: هو مرفوع بالابتداء والخبر محذوف أي والطير تؤوب وألنا له الحديد وجعلناه في يده كالشمع والعجين يصرفه كما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة، قاله وغيره، وقيل: جعلناه بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه لينا كالسمع بالنسبة إلى قوى سائر البشر. السدي