وقرأ «الريح» بالرفع على أنه مبتدأ و أبو بكر لسليمان خبره، والكلام على تقدير مضاف، أي ولسليمان تسخير الريح، وذهب غير واحد إلى أنه مبتدأ ومتعلق الجار كون خاص هو الخبر وليس هناك مضاف مقدر، أي ولسليمان الريح مسخرة، وعندي أن الجملة على القراءتين معطوفة على قوله تعالى: ولقد آتينا داود منا فضلا إلخ عطف القصة على القصة، وقال ابن الشيخ: العطف على القراءة الأولى على ( ألنا له الحديد ) وكلتا الجملتين فعلية وعلى القراءة الثانية العطف على اسمية مقدرة دلت عليها تلك الجملة الفعلية لا عليها للتخالف فكأنه قيل: ما ذكرنا لداود ولسليمان الريح فإنها كانت له كالمملوك المختص بالمالك يأمرها بما يريد ويسير عليها حيثما يشاء، ثم قال: وإنما لم يقل ومع سليمان الريح لأن حركتها ليست بحركة سليمان بل هي تتحرك بنفسها وتحرك سليمان وجنوده بحركتها وتسير بهم حيث شاء وهذا على خلاف تأويب الجبال فإنه كان تبعا لتأويب داود عليه السلام فلذا جيء هناك ب معه.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وخالد بن إلياس «الرياح» بالرفع جمعا غدوها شهر ورواحها شهر أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك، والجملة إما مستأنفة أو حال من ( الريح ) ولا بد من تقدير مضاف في الخبر لأن الغدو والرواح ليس نفس الشهر وإنما يكونان فيه، ولا حاجة إلى تقدير في المبتدأ كما فعل حيث قال: أي مسير غدوها مسيرة شهر ومسير رواحها كذلك لما لا يخفى، وقال مكي في أماليه: الفائدة في إعادة لفظ الشهر الإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح والألفاظ التي تأتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار ألا ترى أنك تقول زنة هذا مثقال وزنة هذا مثقال فلا يحسن الإضمار كما لا يحسن في التمييز، وأيضا فإنه لو أضمر فالضمير إنما يكون لما تقدم باعتبار خصوصيته فإذا لم يكن له بذلك الاعتبار وجب العدول إلى الظاهر، ألا ترى أنك إذا أكرمت رجلا وكسوت ذلك الرجل بخصوصه لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوته، ولو أكرمت رجلا وكسوت رجلا آخر لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوت رجلا، فتبين أنه ليس من وضع الظاهر موضع الضمير كذا في حواشي ابن الحاجب الطيبي عليه الرحمة، ولا يخفى أن ما ذكره مبني على ما هو الغالب، وإلا فقد قال تعالى: [ ص: 117 ] وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره [فاطر: 11] ولم يقتصر على الإعلام بزمن الغدو ليقاس عليه زمن الرواح لأن الريح كثيرا ما تسكن أو تضعف حركتها بالعشي، فدفع بالتنصيص على بيان زمن الرواح توهم اختلاف الزمانين، قال كانت الريح تقطع به عليه السلام في الغدو إلى الزوال مسيرة شهر وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر. قتادة
وأخرج في الزهد عن أحمد أنه قال في الآية كان الحسن سليمان عليه السلام يغدو من بيت المقدس فيقيل بإصطخر ثم يروح من إصطخر فيقيل بقلعة خراسان.
وقد ذكر حديث هذه الريح في بعض الأشعار القديمة قال ونقله عنه في البحر: وجدت أبياتا منقورة في صخرة بأرض وهب كسكر لبعض أصحاب سليمان عليه السلام وهي:
ونحن ولا حول سوى حول ربنا نروح من الأوطان من أرض تدمر إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا
مسيرة شهر والغدو لآخر أناس شروا لله طوعا نفوسهم
بنصر ابن داود النبي المطهر لهم في معالي الدين فضل ورفعة
وإن نسبوا يوما فمن خير معشر متى تركب الريح المطيعة أسرعت
مبادرة عن شهرها لم تقصر تظلهم طير صفوف عليهم
متى رفرفت من فوقهم لم تنفر
وذكر أيضا رضي الله تعالى عنه أنه عليه السلام كان مستقره تدمر وأن الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر، وقال: وفيه يقول : النابغة
إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاصددها عن الفند
وجيش الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
انتهى، وما ذكره في تدمر هو المشهور عند العامة وقد ذكر ذلك الثعالبي في تفسيره مع الأبيات المذكورة لكن في القاموس تدمر كتنصر بنت حسان بن أذينة بها سميت مدينتها وهو ظاهر في المخالفة، ولعل التعويل على ما فيه إن لم يمكن الجمع والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وقرأ «غدوتها» «وروحتها» على وزن فعلة وهي المرة الواحدة غدا وراح . ابن أبي عبلة
وأسلنا له عين القطر أي النحاس الذائب من قطر يقطر قطرا وقطرانا بسكون الطاء وفتحها، وقيل الفلزات النحاس والحديد وغيرهما، وعلى الأول جمهور اللغويين، وأريد بعين القطر معدن النحاس ولكنه سبحانه أساله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سمي عين القطر باسم ما آل إليه، وذكر الجلبي أن نسبة الإسالة إلى العين مجازية كما في جري النهر.
وقال الخفاجي : إن كانت العين هنا بمعنى الماء المعين أي الجاري، وإضافتها كما في لجين الماء فلا تجوز في النسبة وإنما هو من مجاز الأول على أن العين منبع الماء ولا حاجة إليه اه، فتأمل.
وقال بعضهم: القطر النحاس وعين بمعنى ذات، ومعنى أسلنا أذبنا فالمعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود عليه السلام فكانت الأعمال تتأتى منه وهو بارد دون نار ولم يلن ولا ذاب لأحد قبله [ ص: 118 ] والظاهر المؤيد بالآثار أنه تعالى جعله في معدنه عينا تسيل كعيون الماء.
أخرج عن ابن المنذر أنه قال في الآية: أسال الله تعالى له القطر ثلاثة أيام يسيل كما يسيل الماء قيل: إلى أين؟ قال: لا أدري. وأخرج عكرمة عن ابن أبي حاتم قال: سيلت له عين من نحاس ثلاثة أيام، وفي البحر عن السدي ابن عباس والسدي قالوا، أجريت له عليه السلام ثلاثة أيام بلياليهن وكانت بأرض ومجاهد اليمن، وفي رواية عن أن مجاهد النحاس سال من صنعاء وقيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام.
ومن الجن من يعمل بين يديه يحتمل أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف هو خبر مقدم و ( من ) في محل رفع مبتدأ، ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا مقدما من ( من ) وهي في محل نصب عطف على الريح وجوز أن يكون ( من الجن ) عطفا على الريح على أن من للتبعيض ( ومن يعمل ) بدل منه وهو تكلف ويعمل إما منزل منزلة اللازم أو مفعوله مقدر يفسره ما سيأتي إن شاء الله تعالى ليكون تفصيلا بعد الإجمال، وهو أوقع في النفس بإذن ربه بأمره عز وجل.
ومن يزغ منهم عن أمرنا أي ومن يعدل منهم عما أمرناه به من طاعة سليمان عليه السلام، وقرئ «يزغ» بضم الياء من أزاغ مبنيا للفاعل ومفعوله محذوف، أي من يمل ويصرف نفسه أو غيره، وقيل مبنيا للمفعول فلا يحتاج إلى تقدير مفعول نذقه من عذاب السعير أي عذاب النار في الآخرة، كما قال أكثر المفسرين، وروي ذلك عن ، وقال بعضهم: المراد تعذيبه في الدنيا. ابن عباس
روي عن أنه عليه السلام كان معه ملك بيده سوط من نار كل ما استعصى عليه جني ضربه من حيث لا يراه الجني، وفي بعض الروايات أنه كان يحرق من يخالفه، واحتراق الجني مع أنه مخلوق من النار غير منكر فإنه عندنا ليس نارا محضة وإنما النار أغلب العناصر فيه. السدي