إن الله يسمع من يشاء أي يسمعه ويجعله مدركا للأصوات، وقال الخفاجي وغيره: ولعل في الآية ما يقتضي أن المراد يسمع من يشاء سماع تدبر وقبول لآياته عز وجل .
وما أنت بمسمع من في القبور ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات وإشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام من إيمانهم، والباء مزيدة للتأكيد، أي وما أنت مسمع، والمراد بالسماع هنا ما أريد به في سابقه، ولا يأبى إرادة السماع المعروف ما ورد في حديث القليب لأن المراد نفي الإسماع بطريق العادة، وما في الحديث من باب وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال: 17] وإلى هذا ذهب البعض، وقد مر الكلام في ذلك، فلا تغفل.
وما ألطف نظم هذه التمثيلات فقد شبه المؤمن والكافر أولا بالبحرين وفضل البحر الأجاج على الكافر لخلوه من النفع، ثم بالأعمى والبصير مستتبعا بالظلمات والنور والظل والحرور، فلم يكتف بفقدان نور البصر حتى ضم إليه فقدان ما يمده من النور الخارجي، وقرن إليه نتيجة ذلك العمى والفقدان فكان فيه ترق من التشبيه الأول إليه ثم بالأحياء والأموات ترقيا ثانيا، وأردف قوله سبحانه: وما أنت بمسمع من في القبور .
وذكر الطيبي أن إخلاء الثاني من لا المؤكدة لأنه كالتمهيد لقوله تعالى: وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ ص: 187 ] ولهذا كرر ( وما يستوي ) وأما ذكرها في التمثيلين بعده فلأنهما مقصودان في أنفسهما إذ ما فيهما مثلان للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب دون المؤمن والكافر كما في غيرهما، وإنما حملت على أنها زائدة للتأكيد إذ ليس المراد أن الظلمات في نفسها لا تستوي بل تتفاوت فمن ظلمة هي أشد من أخرى مثلا، وكذا يقال فيما بعد بل المراد أن الظلمات لا تساوي النور والظل لا يساوي الحرور والأحياء لا تساوي الأموات.
وزعم أن دخول لا على نية التكرار كأنه قيل: ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات، وهكذا فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني، ودل مذكور الكلام على متروكه، والقول بأنها مزيدة لتأكيد النفي يغني عن اعتبار هذا الحذف الذي لا فائدة فيه. ابن عطية
وقال الإمام: كررت لا فيما كررت لتأكيد المنافاة فالظلمات تنافي النور وتضاده والظل والحرور كذلك لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد، بخلاف الأعمى والبصير فإن الشخص الواحد قد يكون بصيرا ثم يعرض له العمى، فلا منافاة إلا من حيث الوصف، وأما الأحياء والأموات فيهما وإن كانا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد قد يكون حيا ثم يعرض له الموت، لكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير فإنهما قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت كيف والميت مخالف الحي في الحقيقة على ما تبين في الحكمة الإلهية.
وقيل: لم تكرر، قيل: وكررت بعد لأن المخاطب في أول الكلام لا يقصر في فهم المراد، وقيل: كررت فيما عدا الأخير لأنه لو قيل وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور مثلا لتوهم نفي الاستواء بين مجموع الأعمى والبصير ومجموع الظلمات والنور، وفي الأخير للاعتناء، وإدخال (لا) على المتقابلين لتذكير نفي الاستواء.
وقدم الأعمى على البصير مع أن البصير أشرف لأنه إشارة إلى الكافر وهو موجود قبل البعثة والدعوة إلى الإيمان، ولنحو هذا قدم الظلمات على النور، فإن الباطل كان موجودا فدمغه الحق ببعثته عليه الصلاة والسلام، ولم يقدم الحرور على الظل ليكون على طرز ما سبق من تقديم غير الأشرف بل قدم الظل رعاية لمناسبته للعمى والظلمة من وجه أو لسبق الرحمة مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة.
وقدم الأحياء على الأموات ولم يعكس الأمر ليوافق الأولين في تقديم غير الأشرف لأن الأحياء إشارة إلى المؤمنين بعد الدعوة والأموات إشارة إلى المصرين على الكفر بعدها ولذا قيل بعد إن الله يسمع من يشاء الخ، ووجود المصرين بوصف الإصرار بعد وجود المؤمنين، وقيل قدم ما قدم فيما عدا الأخير لأنه عدم وله مرتبة السبق، وفي الأخير لأن المراد بالأموات فاقدو الحياة بعد الاتصاف بها كما يشعر به أرداف ذلك بقوله تعالى: وما أنت بمسمع من في القبور فيكون للحياة مع أنها وجودية رتبة السبق أيضا، وقيل إن تقديم غير الأشرف مع انفهام أنه غير أشرف على الأشرف للإشارة إلى أن التقديم صورة لا يخل بشرف الأشرف:
فالنار يعلوها الدخان وربما يعلو الغبار عمائم الفرسان
لتعدد فنون الباطل واتحاد الحق، وقيل لأن الظلمة قد تتعدد فتكون في محال قد تخلل بينهما نور، والنور في هذا العالم وإن تعدد إلا أنه يتحد وراء محل تعدده، وجمع الأحياء والأموات على بابه لتعدد المشبه بهما ولم يجمع الأعمى والبصير لذلك لأن القصد إلى الجنس، والمفرد أظهر فيه مع أن في البصراء ترك رعاية الفاصلة، وهو على الذوق السليم دون البصير، فتدبر جميع ذلك والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وهو العليم الخبير. [ ص: 188 ] وجمع الظلمات مع إفراد النور
وقرأ الأشهب «بمسمع من» بالإضافة. والحسن