فلا والله لا يلفى لما بي ولا للما بهم أبدا دواء
[ ص: 182 ] وأعطيت حكم المنادى، وجعل المقصود بالنداء وصفا لها، والتزم فيه هذه الحركة الخاصة المسماة بالضمة خلافا للمازني، فإنه أجاز نصبه، وليس له في ذلك سلف، ولا خلف، لمخالفته للمسموع، وإنما التزم ذلك إشعارا بأنه المقصود بالنداء، ولا ينافي هذا كون الوصف تابعا غير مقصود بالنسبة لمتبوعه، لأن ذلك بحسب الوضع الأصلي حيث لم يطرأ عليه ما يجعله مقصودا في حد ذاته، ككونه مفسرا لمبهم، ومن هنا لم يشترطوا في هذا الوصف الاشتقاق مع أن النحويين إلا النذر كابن الحاجب اشترطوا ذلك في النعوت على ما بين في محله، و(ها) التنبيهية زائدة لازمة للتأكيد والتعويض عما تستحق من المضاف إليه، أو ما في حكمه من التنوين كما في أيا ما تدعوا وإن لم يستعمل هنا مضافا أصلا، وكثر النداء في الكتاب المجيد على هذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيرا ما يقتضيه المقام بتكرر الذكر، والإيضاح بعد الإبهام، والتأكيد بحرف التنبيه واجتماع التعريفين، هذا ما ذهب إليه الجمهور وقطع لضعف نظره بأن أيا الواقعة في النداء موصولة حذف صدر صلتها وجوبا لمناسبة التخفيف للمنادى، وأيد بكثرة وقوعها في كلامهم موصولة، وندرة وقوعها موصوفة، واعتذر عن عدم نصبها حينئذ مع أنها مضارعة للمضاف بأنه إذا حذف صدر صلتها كان الأغلب فيها البناء على الضم، فحرف النداء على هذا يكون داخلا على مبني على الضم، ولم يغيره، وإن كان مضارعا للمضاف، ويؤيد الأول عدم الاحتياج إلى الحذف، وصدق تعريف النعت، والموافقة مع هذا، وأنها لو كانت موصولة لجاز أن توصل بجملة فعلية أو ظرفية إلى غير ذلك، مما يقطع المنصف معه بأرجحية مذهب الجمهور، نعم أورد عليه إشكال استصعبه بعض من سلف من علماء العربية، وقال : إنه لا جواب له، وهو أن ما ادعوا كونه تابعا معرب بالرفع، وكل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل، ولا عامل يقتضي الرفع هناك، لأن متبوعه مبني لفظا، ومنصوب محلا، فلا وجه لرفعه، وأقول : إن هذا من الأبحاث الواقعة بين الأخفش أبي نزار وابن الشجري، وذلك أنه وقع سؤال عن ضمة هذا التابع، فكتب أبو نزار أنها ضمة بناء، وليست ضمة إعراب، لأن ضمة الإعراب لا بد لها من عامل يوجبها، ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة، وكتب الشيخ منصور موهوب بن أنها ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء، ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب، وذلك لأن الواقع عليه النداء أي المبني على الضم، لوقوعه موقع الحرف، والاسم الواقع بعد وإن كان مقصودا بالنداء إلا أنه صفة أي، فمحال أن يبنى أيضا، لأنه مرفوع رفعا صحيحا، ولهذا أجاز فيه أحمد النصب على الموضع كما يجوز في يا زيد الظريف، وعلة الرفع أنه لما استمر الضم في كل منادى معرفة أشبه ما أسند إليه الفعل، فأجريت صفته على اللفظ، فرفعت، وأجاب المازني ابن الشجري بما أجاب به الشيخ، وكتب أنها ضمة إعراب، لأن ضمة المنادى المفرد لها باطرادها منزلة بين منزلتين، فليست كضمة حيث، لأنها غير مطردة لعدم اطراد العلة التي أوجبتها، ولا كضمة زيد في نحو: خرج زيد، لأنها حدثت بعامل لفظي، ولما اطردت الضمة في نحو: يا زيد، يا عمرو، وكذلك اطردت في نحو: يا رجل، يا غلام، إلى ما لا يحصى نزل الاطراد فيها منزلة العامل المعنوي الواقع للمبتدإ من حيث اطردت الرفعة في كل اسم ابتدئ به مجردا عن عامل لفظي، وجيء له بخبر، كـعمرو منطلق، وزيد ذاهب، إلى غير ذلك، فلما استمرت ضمة المنادى في معظم الأسماء كما استمرت في الأسماء المعربة الضمة الحادثة عن الابتداء شبهتها العرب بضمة المبتدإ، فأتبعتها ضمة الإعراب في صفة المنادى في نحو: يا زيد الطويل، وجمع بينهما أيضا أن الاطراد معنى كما أن الابتداء كذلك، ومن شأن العرب أن تحمل الشيء على الشيء مع حصول أدنى مناسبة بينهما، حتى أنهم قد حملوا أشياء على نقائضها، ألا ترى أنهم أتبعوا حركة الإعراب حركة البناء في قراءة من قرأ (الحمد لله) بضم اللام، وكذلك أتبعوا حركة البناء [ ص: 183 ] حركة الإعراب في نحو: يا زيد بن عمرو، في قول من فتح الدال من زيد انتهى ملخصا، وقد ذكر ذلك ابن الشجري في أماليه، وأكثر في الحط على ابن نزار، وبين ما وقع بينه وبينه مشافهة، ولولا مزيد الإطالة لذكرته بعجره وبجره، وأنت تعلم ما في ذلك كله من الوهن، ولهذا قال بعض المحققين : إن الحق أنها حركة إتباع ومناسبة لضمة المنادى ككسر الميم من غلامي، وحينئذ يندفع الإشكال كما لا يخفى على ذوي الكمال.بقي الكلام في اللام الداخلة على هذا النعت هل هي للتعريف أم لا؟ والذي عليه الجمهور وهو المشهور أنها للتعريف، كما تقدمت الإشارة إليه، ولما سئل عن ذلك أبو نزار قال : إنها هناك ليست للتعريف، لأن التعريف لا يكون إلا بين اثنين في ثالث، واللام فيما نحن فيه داخلة في اسم المخاطب، ثم قال : والصحيح إنها دخلت بدلا من يا وأي، وإن كان منادى إلا أن نداءه لفظي، والمنادى على الحقيقة هو المقرون بأل، ولما قصدوا تأكيد التنبيه، وقدروا تكرير حرف النداء، كرهوا التكرير، فعوضوا عن حرف النداء ثانيا (ها) وثالثا (أل)، وتعقبه ابن الشجري قائلا : إن هذا قول فاسد بل اللام هناك لتعريف الحضور، كالتعريف في قولك: جاء هذا الرجل مثلا، ولكنها لما دخلت على اسم المخاطب صار الحكم للخطاب من حيث كان قولنا: يا أيها الرجل معناه: يا رجل، ولما كان الرجل هو المخاطب في المعنى، غلب حكم الخطاب، فاكتفى باثنين لأن أسماء الخطاب لا تفتقر في تعريفها إلى حضور ثالث، ألا ترى أن قولك: خرجت يا هذا، وانطلقت وأكرمتك، لا حاجة به إلى ثالث، وليس كل وجوه التعريف يقتضي أن يكون بين اثنين في ثالث، فإن ضمير المتكلم في أنا، خرجت معرفة إجماعا، ولا يتوقف تعريفه على حضور ثالث، وأيضا ما قص من حديث التعويض يستدعي بظاهره أن يكون أصل يا أيها الرجل مثلا، (يا أي يا يا رجل)، وأنهم عوضوا من يا الثانية ها، ومن الثالثة الألف واللام، وأنت تعلم أن هذا مع مخالفته لقول الجماعة خلف من القول يمجه السمع وينكره الطبع فليفهم.
(والناس) اسم جمع على ما حققه جمع، والجموع وأسماؤها المحلاة بالعموم حيث لا عهد خارجي كما يدل عليه وقوع الاستثناء، والأصل فيه الاتصال، وهو يقتضي الدخول يقينا، ولا يتصور إلا بالعموم، ونحو: ضربت زيدا إلا رأسه، وصمت رمضان إلا عشره الأخير، عام تأويلا، وكذا التأكيد بما يفيد العموم إذ لو لم يكن هناك عموم كان التأكيد تأسيسا، والاتفاق على خلافه، وشيوع استدلال الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالعموم كما في حديث السقيفة، وهم أئمة الهدى، ثم هذا الخطاب في نحو: يا أيها الناس، يسمى بالخطاب الشفاهي عند الأصوليين، قالوا : وليس عاما لمن بعد الموجودين في زمن الوحي، أو لمن بعد الحاضرين مهابط الوحي، والأول هو الوجه، وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر من نص أو قياس أو إجماع، وأما بمجرد الصيغة فلا، وقالت الحنابلة : بل هو عام لمن بعدهم إلى يوم القيامة، واستدل الأولون بأنا نعلم أنه لا يقال للمعدومين نحو يا أيها الناس، قال العضد : وإنكاره مكابرة، وبأنه امتنع خطاب الصبي، والمجنون بنحوه، وإذا لم نوجهه نحوهم مع وجودهم لقصورهم عن الخطاب فالمعدوم أجدر أن يمنع، لأن تناوله أبعد، واستدل الآخرون بأنه لو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا به لمن بعدهم، لم يكن مرسلا إليهم، واللازم منتف، وبأنه لم يزل العلماء يحتجون على أهل الأعصار ممن بعد الصحابة بمثل ذلك، وهو إجماع على العموم لهم.
وأجيب : أما عن الأول، فبأن الرسالة إنما تستدعي التبليغ في الجملة، وهو لا يتوقف على المشافهة، بل يكفي فيه حصوله للبعض شفاها، وللبعض بنصب الدلائل والأمارات، على أن حكمهم حكم الذين شافههم، وأما عن الثاني فبأنه لا يتعين أن يكون ذلك لتناوله لهم، بل قد يكون لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر، قاله غير واحد.
وفي شرح العلامة الثاني للشرح العضدي، أن القول بعموم الشفاهي وإن نسب إلى الحنابلة ليس ببعيد، وقال بعض [ ص: 184 ] أجلة المحققين : إنه المشهور، حتى قالوا: إن الحق أن العموم معلوم بالضرورة من الدين المحمدي، وهو الأقرب، وقول العضد : إن إنكاره مكابرة حق، لو كان الخطاب للمعدومين خاصة، أما إذا كان للموجودين والمعدومين على طريق التغليب، فلا، ومثله فصيح شائع، وكل ما استدل به على خلافه ضعيف انتهى، وإلى العموم ذهب كثير من الشافعية على أنه عندهم عام، بحاق لفظه ومنطوقه من غير احتياج إلى دليل آخر، وقد قيل : إنه من قبيل الخطاب العام الذي أجري على غير ظاهره كما في قوله :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
الذي خلقكم والذين من قبلكم الموصول صفة مادحة للرب، وفيها أيضا تعليل العبادة، أو الربوبية على ما قيل، فإن كان الخطاب في (ربكم) شاملا للفرق الثلاث، فذاك ، وإن خص بالمشركين، وأريد بالرب ما تعورف بينهم من إطلاقه على غيره تعالى احتمل أن تكون مقيدة إن حملت الإضافة على الجنس، وموضحة إن حملت على العهد، ولا يبعد على هذا أن تكون مادحة لأن المطلق يتبادر منه رب الأرباب، إلا أن جعلها للتقييد والتوضيح أظهر بناء على ما كانوا فيه، وتعريضا بما كانوا عليه، ولأنه الأصل، فلا يترك إلا بدليل، والخلق الاختراع بلا مثال، ويكون بمعنى التقدير، وعلى الأول لا يتصف به سواه سبحانه، وعلى الثاني قد يتصف به غيره، ومنه فتبارك الله أحسن الخالقين وإذ تخلق من الطين وقول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض القوم يخلق ثم لا يفري
من النفر اللائي الذين إذا هم تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
وتخريج البيت على نحو هذا وقيل : (من)، زائدة، وقد أجاز بعض النحاة زيادة الأسماء، زيادة (من) الموصولة، وجعل من ذلك: والكسائي
وكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق