(ومن باب الإشارة في الآيات) ما قالوا: والصافات صفا هي الأرواح الكاملة المكملة من الصف الأول، وهو صف الأنبياء - عليهم السلام - والصف الثاني وهو صف الأصفياء، فالزاجرات زجرا عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح والهمم القدسية، فالتاليات ذكرا آيات الله تعالى وشرائعه عز وجل، وقيل: الصافات جماعة الملائكة المهيمين، والزاجرات جماعة الملائكة الزاجرين للأجرام العلوية والأجسام السفلية بالتدبير، والتاليات جماعة الملائكة التالية آيات الله تعالى وجلايا قدسه على أنبيائه وأوليائه، وتنزل الملائكة على الأولياء مما قال به الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، وقد نطق بأصل التنزل عليهم قوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون وقد يطلقون على بعض الأولياء أنبياء الأولياء.
قال الشعراوي في رسالة الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح: أنبياء الأولياء هم كل ولي أقامه الحق تعالى في تجل من مظهر تجلياته، وأقام له محمد صلى الله عليه وسلم ومظهر جبريل - عليه السلام - فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد صلى الله عليه وسلم حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية، فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي، فيرد إلى حسه، وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم صحته علم يقين، بل عين يقين، فمثل هذا يعمل بما شاء من الأحاديث لا التفات له إلى تصحيح غيره، أو تضعيفه، فقد يكون ما قال بعض المحدثين بأنه صحيح لم يقله النبي - عليه الصلاة والسلام - وقد يكون ما قالوا فيه: إنه ضعيف سمعه هذا الولي من الروح الأمين يلقيه على حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم كما سمع بعض الصحابة حديث جبريل في بيان الإسلام والإيمان والإحسان، فهؤلاء هم أنبياء الأولياء، ولا ينفردون قط بشريعة، ولا يكون لهم خطاب بها إلا بتعريف أن هذا هو شرع محمد - عليه الصلاة والسلام - أو يشاهدون المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم في حضرة التمثل الخارج عن ذاتهم، والداخل المعبر [ ص: 160 ] عنه بالمبشرات في حق النائم، غير أن الولي يشترك مع النبي في إدراك ما تدركه العامة في النوم في حال اليقظة، فهؤلاء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل على مرتبة تعبد هارون بشريعة موسى مع كونه نبيا، وهم الذين يحفظون الشريعة الصحيحة التي لا شك فيها على أنفسهم، وعلى هذه الأمة، فهم أعلم الناس بالشرع، غير أن غالب علماء الشريعة لا يسلمون لهم ذلك، وهم لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم، لأنهم ليسوا مشرعين، فهم حفاظ الحال النبوي، والعلم اللدني، والسر الإلهي، وغيرهم حفاظ الأحكام الظاهرة، وقد بسطنا الكلام على ذلك في الميزان اهـ. وقال بعيد هذا في رسالته المذكورة: اعلم أن بعض العلماء أنكروا نزول الملك على قلب غير النبي صلى الله عليه وسلم لعدم ذوقه له، والحق أنه ينزل، ولكن بشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالخلاف إنما ينبغي أن يكون فيما ينزل به الملك، لا في نزول الملك، وإذا نزل على غير نبي لا يظهر له حال الكلام أبدا، إنما يسمع كلامه، ولا يرى شخصه أو يرى شخصه من غير كلام، فلا يجمع بين الكلام والرؤية إلا نبي، والسلام اهـ. وقد تقدم لك طرف من الكلام في رؤية الملك فتذكر. إن إلهكم لواحد إخبار بذلك ليعلموه، ولا يتخذوا من دونه تعالى آلهة من الدنيا، والهوى، والشيطان، ومعنى كونه - عز وجل - واحدا تفرده في الذات والصفات والأفعال، وعدم شركة أحد معه سبحانه في شيء من الأشياء، وطبقوا أكثر الآيات بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى: وقفوهم إنهم مسؤولون فيه إشارة إلى أن للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام، وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام، فإن خرج عن عهدة جوابه أذن له بالعبور، وإلا بقي موقوفا رهينا بأحواله إلى أن يؤدي حقوقه، وكذا طبقوا ما جاء من قصص المرسلين بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى: وما منا إلا له مقام معلوم يشير إلى أن الملك لا يتعدى مقامه إلى ما فوقه، ولا يهبط عنه إلى ما دونه، وهذا بخلاف نوع الإنسان، فإن من أفراده من سار إلى مقام (قاب قوسين)، بل طار إلى منزل أو أدنى، وجر هناك مطارف: فأوحى إلى عبده ما أوحى
ومنها من هوى إلى أسفل سافلين، وانحط إلى قعر سجين، واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين وقد ذكروا أن الإنسان قد يترقى حتى يصل إلى مقام الملك، فيعبره إلى مقام قرب النوافل ومقام قرب الفرائض، وقد يهبط إلى درك البهيمية فما دونها، أولئك كالأنعام بل هم أضل نسأل الله تعالى أن يرقينا إلى مقام يرضاه، ويرزقنا رضاه يوم لقاه، وأن يجعلنا من جنده الغالبين، وعباده المخلصين بحرمة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، سلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.