لقد تصبرت حتى لات مصطبر والآن أقحم حتى لات مقتحم
وإن لم يهمنا أمره مخرج على ذلك بجعل المصطبر والمقتحم اسمي زمان، أو القول بأنها داخلة فيه على لفظ حين مقدر بعدها، والتزموا حذف أحد الجزأين، والغالب حذف المرفوع كما هنا على قراءة الجمهور، أي ليس الحين حين مناص، ومذهب : أنها لا النافية للجنس العاملة عمل إن زيدت عليها التاء، (فحين مناص) اسمها، والخبر محذوف أي لهم، وقيل: إنها لا النافية للفعل، زيدت عليها التاء، ولا عمل لها أصلا، فإن وليها مرفوع فمبتدأ حذف خبره أو منصوب، كما هنا، فبعدها فعل مقدر عامل فيه، أي ولا ترى حين مناص، وقرأ الأخفش أبو السمال "ولات حين" بضم التاء ورفع النون، فعلى مذهب حين اسم لات، والخبر محذوف أي ليس حين مناص حاصلا [ ص: 164 ] لهم، وعلى القول الأخير: مبتدأ خبره محذوف، وكذا على مذهب سيبويه ، فإن من مذهبه كما في البحر: أنه إذا ارتفع ما بعدها فعلى الابتداء، أي فلا حين مناص كائن لهم. وقرأ الأخفش "ولات حين" بكسر التاء مع النون كما في قول عيسى بن عمر: المنذر بن حرملة الطائي النصراني:
طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن لات حين بقاء
وخرج ذلك إما على أن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر، كلولاك، ولولاه عند ، وإما على إضمار (من) كأنه قيل: لات من حين مناص، ولات من أوان صلح، كما جروا بها مضمرة في قولهم على كم جذع بيتك، أي من جذع في أصح القولين، وقولهم: ألا رجل جزاه الله خيرا. يريدون ألا من رجل، ويكون موضع (من حين مناص) رفعا على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقول: ليس من رجل قائما، والخبر محذوف على قول سيبويه ، وعلى أنه مبتدأ، والخبر محذوف على قول غيره، وخرج سيبويه ولات، أو أن على إضمار حين، أي ولات حين أوان صلح، فحذفت حين، وأبقي أوان على جره، وقيل: إن (أوان) في البيت مبني على الكسر، وهو مشبه بإذ في قول الأخفش أبي ذؤيب:
نهيتك عن طلابك أم عمرو بعاقبة وأنت إذ صحيح
ووجه التشبيه أنه زمان قطع عنه المضاف إليه، لأن الوصل أوان صلح، وعوض التنوين، فكسر لالتقاء الساكنين لكونه مبنيا مثله، فهما شبهان في أنهما مبنيان مع وجود تنوين في آخرهما للعوض يوجب تحريك الآخر بالكسر، وإن كان سبب البناء في أوان دون إذ شبه الغايات، حيث جعل زمانا قطع عنه المضاف إليه، وهو مراد، وليس تنوين العوض مانعا عن الإلحاق بها، فإنها تبنى إذا لم يكن تنوين، لأن علته الاحتياج إلى المحذوف، كاحتياج الحرف إلى ما يتم به، وهذا المعنى قائم نون أو لم ينون، فإن التنوين عوض لفظي لا معنوي، فلا تنافي بين التعويض والبناء، لكن اتفق أنهم لم يعوضوا التنوين إلا في حال إعرابها، وكأن ذلك لئلا يتمحض للتعويض، بل يكون فيها معنى التمكن أيضا، فلا منافاة، وثبت البناء فيما نحن فيه بدليل الكسر، وكانت العلة التي في الغايات قائمة، فأحيل البناء عليها، واتفق أنهم عوضوا التنوين ها هنا تشبيها بإذ في أنها لما قطعت عن الإضافة نونت، أو توفية لحق اللفظ لما فات حق المعنى، وخرجت القراءة على حمل مناص على أوان في البيت تنزيلا لما أضيف إليه الظرف، وهو حين منزلة الظرف، لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد، فقدرت ظرفيته، وهو قد كان مضافا إذا أصله مناصهم، فقطع وصار، كأنه ظرف مبني مقطوع عن الإضافة منون لقطعه، ثم بني ما أضيف إليه، وهو حين على الكسر لإضافته إلى ما هو مبني فرضا وتقديرا، وهو مناص المشابه لأوان. وأورد عليه أن ما ذكر من الحمل لم يؤثر في المحمول نفسه، فكيف يؤثر فيما يضاف إليه، على أن في تخريج الجر في البيت على ذلك ما فيه، والعجب كل العجب ممن يرتضيه، وضم التاء على قراءة أبي السمال وكسرها على قراءة عيسى للبناء، وروي عن عيسى "ولات حين" بالضم، "مناص" بالفتح، قال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك فلعله بني "حين" على الضم تشبيها بالغايات، وبني مناص على الفتح مع لات وفي الكلام تقديم وتأخير، أي ولات مناص حين لكن لا إنما تعمل في النكرات المتصلة بها دون المنفصلة عنها ولو بظرف، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه انتهى، وأهون من هذا فيما أرى كون حين معربا مضافا إلى مناص والفتح لمجاورة واو العطف في قوله تعالى: وعجبوا نظير فتح الراء من غير في قوله:
[ ص: 165 ]
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات إرقال
على قول، والأغلب على الظن عدم صحة هذه القراءة. وقرأ عيسى أيضا كقراءة الجمهور إلا أنه كسر تاء " لات " وعلم من هذه القراءات أن في تائها ثلاث لغات، واختلفوا في أمر الوقف عليها، فقال ، سيبويه ، والفراء وابن كيسان، : يوقف عليها بالتاء، وقال والزجاج الكسائي، بالهاء، وقال والمبرد ينبغي أن لا يكون خلاف في أن الوقف بالتاء، لأن قلب التاء هاء مخصوص بالأسماء، وزعم قوم أن التاء ليست ملحقة بلا، وإنما هي مزيدة في أول ما بعدها، واختاره أبو علي: ، وذكر أنه رأى في الإمام "ولاتحين مناص" برسم التاء مخلوطا بأول حين، ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس الخطي، إذ لم يقع في الإمام في محل آخر مرسوما على خلاف ذلك حتى يقال ما هنا مخالف للقياس، والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل، ومن هنا قال أبو عبيدة في شرح الرائية: أنا أستحب الوقف على لا بعد ما شاهدته في مصحف السخاوي رضي الله تعالى عنه، وقد سمعناهم يقولون: اذهب تلان وتحين بدون لا، وهو كثير في النثر والنظم انتهى، ومنه قوله: عثمان
العاطفون تحين لا من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم
وكون أصله العاطفونه بهاء السكت فلما أثبتت في الدرج قلبت تاء مما لا يصغى إليه، نعم الأولى اعتبار التاء مع لا لشهرة حين دون تحين، وقال بعضهم: إن لات هي ليس بعينها وأصل ليس ليس بكسر الياء، فأبدلت ألفا لتحركها بعد فتحة وأبدلت السين تاء كما في ست، فإن أصله سدس، وقيل: إنها فعل ماض ولات بمعنى نقص، وقل فاستعملت في النفي كقل، وليس بالمعول عليه، والمناص المنجا والفوت يقال: ناصه ينوصه إذا فاته، وقال : النوص التأخر ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي فر وزاغ، ويقال استناص طلب المناص، قال الفراء حارثة بن بدر يصف فرسا له:
غمر الجراء إذا قصرت عنانه بيدي استناص ورام جري المسحل
وعلى المعنى الأول حمله بعضهم هنا وقال: المعنى نادوا واستغاثوا طلبا للنجاة، والحال أن ليس الحين حين فوات ونجاة، وعن : تفسيره بالفرار، وأخرج مجاهد الطستي عن أن ابن عباس نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى ولات حين مناص فقال: ليس بحين فرار، وأنشد له قول الأعشى:
تذكرت ليلى لات حين تذكر وقد بنت عنها والمناص بعيد
وعن أنه قال: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض: مناص أي عليكم بالفرار، فلما أتاهم العذاب قالوا: مناص، فقال الله تعالى: الكلبي ولات حين مناص قال : فعلى هذا يكون التقدير: فنادوا مناص، فحذف لدلالة ما بعده عليه، أي ليس الوقت وقت ندائكم به، والظاهر أن الجملة على هذا التفسير حالية، أي نادوا بالفرار، وليس الوقت وقت فرار، وقال القشيري : في تقرير الحالية وهم لات حين مناص أي لهم، وقال أبو حيان الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص، أي ساعة لا منجا، ولا فوت، فلما قدم لا، وأخر حين، اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبرا مثل: جاء زيد راكبا، ثم تقول: جاء زيد وهو راكب، فحين ظرف لقوله تعالى: فنادوا انتهى.
وكون الأصل ما ذكر أن حين ظرف لنادوا دعوى أعجمية مخالفة لذوق الكلام العربي، لا سيما وهو أفصح الكلام، ولا أدري ما الذي دعاه لذلك،