الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ووهبنا له أهله بإحيائهم بعد هلاكهم على ما روي عن الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الطبرسي ، عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى أحيا له أهله الذين كانوا ماتوا قبل البلية، وأهله الذين ماتوا، وهو في البلية، وفي البحر: الجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من تشتت منهم، وقيل: وإليه أميل، وهبه من كان حيا منهم، وعافاه من الأسقام وأرغد لهم العيش فتناسلوا حتى بلغ عددهم من مضى، ومثلهم معهم فكان له ضعف ما كان، والظاهر أن هذه الهبة كانت في الدنيا، وزعم بعض أن هذا وعد، وتكون تلك الهبة في الآخرة، رحمة منا أي لرحمة عظيمة عليه من قبلنا.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكرى لأولي الألباب وتذكيرا لهم بذلك ليصبروا على الشدائد كما صبر ويلجؤوا إلى الله تعالى فيما يصيبهم، كما لجأ، ليفعل سبحانه بهم، فافعل به من حسن العاقبة. روي عن قتادة أنه - عليه السلام - ابتلي سبع سنين، وأشهرا، وألقي على كناسة بني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده، فصبر، ففرج الله تعالى عنه وأعظم له الأجر، وأحسن، وعن ابن عباس : أنه صار ما بين قدميه إلى قرنه قرحة واحدة، وألقي على الرماد حتى بدا حجاب قلبه، فكانت امرأته تسعى إليه فقالت له يوما: أما ترى يا أيوب قد نزل بي، والله من الجهد، والفاقة ما إن بعت قروني برغيف، فأطعمتك، فادع الله تعالى أن يشفيك ويريحك، فقال: ويحك، كنا في النعيم سبعين عاما، فاصبري حتى نكون في الضر سبعين عاما، فكان في البلاء سبع سنين، ودعا فجاء جبريل - عليه السلام - فأخذ بيده، ثم قال: قم، فقام عن مكانه، وقال: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فاغتسل وشرب فبرأ، وألبسه الله تعالى حلة من الجنة فتنحى، فجلس في ناحية، وجاءت امرأته فلم تعرفه، فقالت: يا عبد الله، أين المبتلى الذي كان ها هنا؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب، وجعلت تكلمه ساعة فقال: ويحك أنا أيوب، قد رد الله تعالى علي جسدي، ورد الله تعالى عليه ماله وولده ومثلهم معهم، وأمطر عليه جرادا من ذهب، فجعل يأخذ الجراد بيده، ويجعله في ثوب، وينشر كساءه، فيجعل فيه، فأوحى الله تعالى إليه: يا أيوب أما شبعت؟ قال: يا رب، من الذي يشبع من فضلك ورحمتك.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي البحر: روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة، يتساقط لحمه حتى [ ص: 208 ] مله العالم، ولم يصبر عليه إلا امرأته".

                                                                                                                                                                                                                                      وعظم بلائه - عليه السلام - مما شاع وذاع، ولم يختلف فيه اثنان، لكن في بلوغ أمره إلى أن ألقي على كناسة ونحو ذلك فيه خلاف، قال الطبرسي : قال أهل التحقيق: إنه لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها، لأن في ذلك تنفيرا فأما الفقر والمرض وذهاب الأهل، فيجوز أن يمتحنه الله تعالى بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هداية المريد للقاني: أنه يجوز على الأنبياء - عليهم السلام - كل عرض بشري، ليس محرما، ولا مكروها، ولا مباحا مزريا، ولا مزمنا، ولا مما تعافه الأنفس، ولا مما يؤدي إلى النفرة، ثم قال بعد ورقتين: واحترزنا بقولنا: ولا مزمنا، ولا مما تعافه الأنفس، عما كان كذلك، كالإقعاد والبرص والجذام، والعمى، والجنون، وأما الإغماء فقال النووي : لا شك في جوازه عليهم، لأنه مرض بخلاف الجنون، فإنه نقص، وقيد أبو حامد الإغماء بغير الطويل، وجزم به البلقيني، قال السبكي : وليس كإغماء غيرهم، لأنه إنما يستر حواسهم الظاهرة دون قلوبهم، لأنها معصومة من النوم الأخف، قال: ويمتنع عليهم الجنون، وإن قل لأنه نقص ويلحق به العمى، ولم يعم نبي قط، وما ذكر عن شعيب من كونه كان ضريرا لم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت اهـ.

                                                                                                                                                                                                                                      وفرق بعضهم في عروض ذلك بين أن يكون بعد التبليغ، وحصول الغرض من النبوة، فيجوز، وبين أن يكون قبل فلا يجوز، ولعلك تختار القول بحفظهم بما تعافه النفوس، ويؤدي إلى الاستقذار، والنفرة مطلقا، وحينئذ فلا بد من القول بأن ما ابتلي به أيوب - عليه السلام - لم يصل إلى حد الاستقذار والنفرة كما يشعر به ما روي عن قتادة ونقله القصاص في كتبهم، وذكر بعضهم أن داءه كان الجدري، ولا أعتقد صحة ذلك، والله تعالى أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية