إن المتقين في جنات وعيون لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها آخذين ما آتاهم ربهم أي قابلين لكل ما أعطاهم عز وجل راضين به على معنى إن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول ، والعموم مأخوذ من شيوع ما وإطلاقه في معرض المدح وإظهار منه تعالى عليهم ، واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد ، ونصب آخذين على الحال من الضمير في الصرف إنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا محسنين أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم ، وفسر إحسانهم بقوله تعالى كانوا قليلا من الليل ما يهجعون إلخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى : كانوا قبل ذلك محسنين حصل بها تفسير ، أو أنها جملة لا محل لها من الإعراب مفسرة كسائر الجمل التفسيرية ، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم رضي الله تعالى عنهما أنه قالفي الآية : ابن عباس آخذين ما آتاهم ربهم من الفرائض إنهم كانوا قبل ذلك محسنين أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون ، ولا أظن صحة نسبته لذلك الخبر ، ولا يكاد تجعل جملة ( كانوا ) إلخ عليه تفسيرا إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . و الهجوع - النوم ، وقيده الراغب بقوله : ليلا ، وغيره بالقليل ، وما إما مزيدة - فقليلا – [ ص: 8 ] معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي - هجوعا قليلا - ( ومن الليل ) صفة ، أو لغو متعلق - بيهجعون - ( ومن ) للابتداء ، وجملة ( يهجعون ) خبر - كان - أو ( قليلا ) صفة لظرف محذوف - أي زمانا قليلا - ( ومن الليل ) صفة على نحو - قليل من المال عندي - وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل ( قليلا ) وهو خبر - كان - ( ومن الليل ) حال من الموصول مقدم كأنه قيل : كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائنا ذلك المقدار ( من الليل ) وإما مصدرية فالمصدر فاعل ( قليلا ) وهو خبر كان أيضا ، ( ومن الليل ) بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم ، أو حال من المصدر ، ( ومن ) للابتداء كذا في الكشف فهما من الكشاف ، وذهب بعضهم إلى أن ( من ) على زيادة - ما - بمعنى في كما في قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة [الجمعة : 9] واعترض ابن المنير احتمال مصدريتها بأنه لا يجوز في ( من الليل ) كونه صفة ، أو بيانا - للقليل - لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه ، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره ( يهجعون ) وجوز أن يكون ما ( يهجعون ) على ذلك الاحتمال بدلا من اسم كان فكأنه قيل : كان هجوعهم قليلا وهو بعيد ، وجوز في ما أن تكون نافية ، ( وقليلا ) منصوب - بيهجعون - والمعنى - كانوا لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله - ورواه ابن أبي شيبة وأبو نصر عن ، ورده مجاهد بأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو - عوتب بلا جرم - ولم ولن - لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه ، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين ، وفي شرح الهادي أن بعض النحاة أجازه مطلقا ، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه ، واستدل عليه بقوله : ونحن عن فضلك ما استغنينا نعم يرد على ذلك أن فيه كما في الانتصاف خللا من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعي أن من ذهب إلى ذلك يقول : بأنه كان ثابتا في الشرع ، فقد أخرج الزمخشري ابن أبي شيبة عن وابن المنذر أنه قال في الآية : كان ذلك إذ أمروا بقيام الليل كله فكان عطاء يعتمد على العصا فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة أبو ذر فاقرءوا ما تيسر منه [المزمل : 20] وقال : الضحاك كانوا قليلا في عددهم ، وتم الكلام عند ( قليلا ) ثم ابتدأ من الليل ما يهجعون على أن ما نافية وفيه ما تقدم مع زيادة تفكيك الكلام ، ولعل أظهر الأوجه زيادة ما ونصب ( قليلا ) على الظرفية ، ( ومن الليل ) صفة قيل : وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناء على أنه القليل من النوم ، وقوله تعالى : ( قليلا ومن الليل ) لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة ما لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيدا فيها .
والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلا ، قال : كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلا ، وعن الحسن هجعوا قليلا ثم قاموا ، وفسر عبد الله بن رواحة أنس ابن مالك الآية - كما رواه جماعة عنه وصححه - فقال : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك .
الحاكم