واتقوا الله من أكل الربا لعلكم تفلحون أي تفوزون بالحق .
واتقوا النار التي أعدت للكافرين أي اتقوني في النار لأن إحراقها وعذابها مني ، وهذا سر عين الجمع قالوا : ويرجع في الحقيقة إلى تجلي القهر وهو بظاهره تخويف للعوام ، والتخويف الأول للخواص وقليل ما هم .
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وهي ستر أفعالكم التي هي حجابكم الأعظم عن رؤية الحق وجنة عرضها السماوات والأرض وهي جنة توحيد الأفعال وهو توحيد عالم الملك ، ولذا ذكر سبحانه السموات والأرض ، وذكر العرض دون الطول ؛ لأن الأفعال باعتبار السلسلة العرضية وهي توقف كل فعل على فعل آخر تنحصر في عالم الملك الذي تصل إليه أفهام الناس ويقدرونه ، وأما باعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا يقدر قدرها ، إذ الفعل مظهر الوصف ، والوصف مظهر الذات ، والذات لا نهاية لها ولا حد .
وما قدروا الله حق قدره فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا هذه الجنة ، وأما البارزون لله الواحد القهار فعرض جنتهم عين طولها ولا حد لطولها فلا يقدر قدرها طولا وعرضا أعدت للمتقين حجب أفعالهم وترك نسبة الأفعال إلى غير الحق جل جلاله ، ويحتمل أنه سبحانه دعا خلقه على اختلاف مراتبهم إلى فعل ما يؤدي إلى المغفرة على اختلاف مراتبها فإن الذنب مختلف وذنب المعصوم قلة معرفته بربه بالنظر إلى عظمة جماله وجلاله في نفس الأمر .
وفي الخبر عن سيد العارفين صلى الله تعالى عليه وسلم : " سبحانك ما عرفناك حق معرفتك " فما عرفه العارفون من حيث هو ، وإنما عرفوه من حيث هم ، وفرق بين المعرفتين ، ولهذا قيل : ما عرف الله تعالى إلا الله تعالى ، ودعاهم أيضا إلى ما يجرهم إلى الجنة ، والخطاب بذلك إن كان للعارفين فهو دعاء إلى عين الجمع ليتجلى لهم بالوسائط لبقائهم في المعرفة وفي الحقيقة معرفته قربته ، وجنته مشاهدته ، وفي حقيقة الحقيقة هي الذات الجامع التي لا يصل إليها الأغيار ، ومن هنا قيل : ليس في الجنة إلا الله تعالى ، وإن كان الخطاب بالنظر إلى آحاد المؤمنين ، فالمراد بها أنواع التجليات الجمالية أو ظاهرها الذي أفصح به لسان الشريعة ، ودعاؤهم إليه من باب التربية وجلب النفوس البشرية التي لم تفطم بعد من رضع ثدي اللذائذ إلى ما يرغبها في كسب الكمالات الإنسانية والترقي إلى ذروة المعارج الإلهية الذين ينفقون نفائس نفوسهم لمولاهم في السراء والضراء في حالتي الجمال والجلال ، ويحتمل أن يراد الذين لا تمنعهم الأحوال المتضادة عن الإنفاق فيما يرضي الله تعالى لصحة توكلهم عليه سبحانه برؤية جميع الأفعال منه .
والكاظمين الغيظ الذي يعرض للإنسان بحسب الطبيعة البشرية ، وكظمهم له قد يكون بالشد عليه بوكاء التسليم والرضا ، وذلك بالنظر لمن هو في مقام جنة الصفات ، وأما من دونهم فكظمهم دون هذا الكظم ، [ ص: 80 ] وسبب الكظم أنهم يرون الجناية عليهم فعل الله تعالى وليس للخلق مدخل فيها .
والعافين عن الناس إما لأنهم في مقام توحيد الأفعال ، أو لأنهم في مقام توحيد الصفات .
والله يحب المحسنين حسب مراتبهم في الإحسان والذين إذا فعلوا فاحشة أي كبيرة من الكبائر وهي رؤية أفعالهم المحرمة عليهم تحريم رؤية الأجنبيات بشهوة أو ظلموا أنفسهم بنقصهم حقوقها والتثبط عن تكميلها ذكروا الله أي تذكروا عظمته وعلموا أنه لا فاعل في الحقيقة سواه فاستغفروا لذنوبهم أي طلبوا ستر أفعالهم عنهم بالتبري عن الحول والقوة إلا بالله ومن يغفر الذنوب وهي رؤية الأفعال ، أو النظر إلى سائر الأغيار إلا الله وهو الملك العظيم الذي لا يتعاظمه شيء ولم يصروا على ما فعلوا في غفلتهم ونقص حق نفوسهم وهم يعلمون حقيقة الأمر وأن لا فعل لغيره أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وهو ستره لوجودهم بوجوده وترقيهم من مقام توحيد الأفعال إلى ما فوقه وجنات أي أشياء خفية وهي جنات الغيب وبساتين المشاهدة والمداناة التي هي عيون صفات الذات تجري من تحتها الأنهار أي تجري منها أنهار الأوصاف الأزلية خالدين فيها بلا مكث ولا قطع ولا خطر الزمان ولا حجب المكان ولا تغير ونعم أجر العاملين ومنهم الواقفون بشرط الوفاء في العشق على الحضرة القديمة بلا نقض للعهود ولا سهو في الشهود .
قد خلت من قبلكم سنن بطشات ووقائع في الذين كذبوا الأنبياء في دعائهم إلى التوحيد فسيروا بأفكاركم في الأرض فانظروا وتأملوا في آثارها لتعلموا كيف كان عاقبة المكذبين أي آخر أمرهم ونهايته التي استدعاها التكذيب ، ويحتمل أن يكون هذا أمرا للنفوس بأن تنظر إلى آثار القوى النفسانية التي في أرض الطبيعة لتعلم ماذا عراها وكيف انتهى حالها فلعلها ترقى بسبب ذلك عن حضيض اللحوق بها هذا أي كلام الله تعالى بيان للناس يبين لهم حقائق أمور الكونين وهدى وموعظة يتوصل به إلى الحضرة الإلهية للمتقين وهم أهل الله تعالى وخاصته .
واختلف الحال لاختلاف استعداد المستمعين للكلام إذ منهم قوم يسمعونه بأسماع العقول ، ومنهم قوم يسمعونه بأسماع الأسرار ، وحظ الأولين منه الامتثال والاعتبار ، وحظ الآخرين مع ذلك الكشف وملاحظة الأنوار ، وقد تجلى الحق فيه لخواص عباده ومقربي أهل اصطفائه ، فشاهدوا أنوارا تجلى وصفة قديمة وراء عالم الحروف تتلى .
ولا تهنوا أي لا تضعفوا في الجهاد ولا تحزنوا على ما فاتكم من الفتح ونالكم من قتل الإخوان وأنتم الأعلون في الرتبة إن كنتم مؤمنين أي موحدين حيث إن الموحد يرى الكل من مولاه فأقل درجاته الصبر .
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ولم يبالوا مع أنهم دونكم وتلك الأيام أي الوقائع نداولها بين الناس فيوم لطائفة وآخر لأخرى وليعلم الله الذين آمنوا أي ليظهر علمه التفصيلي التابع لوقوع المعلوم ويتخذ منكم شهداء وهم الذين يشهدون الحق فيذهلون عن أنفسهم والله لا يحب الظالمين أي الذين ظلموا أنفسهم وأضاعوا حقها ولم يكملوا نشأتها .
وليمحص الله الذين آمنوا أي ليخلصهم من الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله تعالى بالعقوبة والبلية ويمحق أي يهلك الكافرين بنار أنانيتهم .
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة أي تلجوا عالم القدس ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين أي ولم يظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات وصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق الشريعة وقانون الطريقة ليتجلى للأرواح أنوار الحقيقة .
ولقد كنتم تمنون الموت أي موت النفوس عن صفاتها من قبل أن تلقوه بالمجاهدات والرياضات فقد رأيتموه برؤية أسبابه وهي الحرب مع أعداء الله تعالى وأنتم تنظرون أي تعلمون أن [ ص: 81 ] ذلك الجهاد أحد أسبابه موت النفس عن صفاتها ، ويحتمل أن يقال : إن الموقن إذا لم يكن يقينه ملكه تمنى أمورا وادعى أحوالا حتى إذا امتحن ظهر منه ما يخالف دعواه وينافي تمنيه ومن هنا قيل :
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا
ومتى رسخ ذلك اليقين وتمكن وصار ملكة ومقاما ولم يبق حالا لم يختلف الأمر عليه عند الامتحان ، والآية تشير إلى توبيخ المنهزمين بأن يقينهم كان حالا ولم يكن مقاما .
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أي أنه بشر كسائر إخوانه من المرسلين فكما خلوا من قبله سيخلو هو من بعدهم أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ورجعتم القهقرى ، والإشارة في ذلك إلى أنه تعالى عاتب من تزلزل لذهاب الواسطة العظمى عن البين وهو مناف لمشاهدة الحق ومعاينته ، ولهذا قال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا لفنائه الذاتي وسيجزي الله بالإيمان الحقيقي الشاكرين بالإيمان التقليدي بأداء حقوقه من الائتمار بأوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه وما كان لنفس أن تموت هذا الموت المعلوم ، أو الموت عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية إلا بإذن الله ومشيئته أو جذبه بإشراق نوره ومن يرد بمقتضى استعداده ثواب الدنيا جزاء لعمله نؤته منها حسبما تقتضيه الحكمة ومن يرد ثواب الآخرة جزاء لعمله نؤته منها وسنجزي الشاكرين ولعلهم الذين لم يريدوا الثوابين ولم يكن لهم غرض سوى العبودية ، وأبهم جزاءهم للإشارة إلى أنه أمر وراء العبارة ، ولعله تجلي الحق لهم ، وهذا غاية متمني المحبين ونهاية مطلب السالكين ، نسأل الله تعالى رضاه وتوفيقه .