وأجيب بأن المراد - باذكر - جنس هذا الفعل فيقدر – اذكروا – لا اذكر ، ويحتمل أنه من قبيل يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ، وأجاب الشهاب بأن اذكر متضمن لمعنى القول ، والمعنى قل لهم يا محمد حين يصعدون إلخ ، ومثله لا منع فيه كما تقول لزيد : أتقول كذا ، فإن الخطاب المحكي مقصود لفظه فلا ينافي القاعدة المذكورة وهم غفلوا عنه فتأمل ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر أيضا ، والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض ، وفرق بعضهم بين الإصعاد والصعود بأن الإصعاد في مستوى الأرض والصعود في ارتفاع ، وقيل : لا فرق بين أصعد وصعد سوى أن الهمزة في الأول للدخول نحو أصبح إذا دخل في الصباح والأكثرون على الأول ، وقرأ فيما أخرجه الحسن عنه (تصعدون) بفتح التاء والعين وحمله بعضهم على صعود الجبل ، وقرأ ابن جرير أبو حيوة (تصعدون) بفتح التاء وتشديد العين وهو إما من تصعد في السلم إذا رقى أو من صعد في الوادي تصعيدا إذا انحدر فيه ، فقد قال : أصعد في الأرض إذا مضى وسار وأصعد في الوادي وصعد فيه إذا انحدر وأنشد : الأخفش
فإما تريني اليوم مزجي ظعينتي أصعد طورا في البلاد وأفرع
وقال الشماخ :
فإن كرهت هجائي فاجتنب سخطي لا يدهمنك إفراعي وتصعيدي
وورد عن غير واحد أن القوم لما امتحنوا ذهبوا فرارا في وادي أحد ، وقال أبو زيد : يقال صعد في السلم صعودا وصعد في الجبل أو على الجبل تصعيدا ولم يعرفوا فيه صعد ، وقرأ : (إذ تصعدون) في الوادي وهي تؤيد قول من قال : إن الإصعاد الذهاب في مستوى الأرض دون الارتفاع ، وقرئ (يصعدون) بالياء التحتية ، وأمر تعلق إذ باذكر عليه ظاهر . أبي
ولا تلوون على أحد أي لا تقيمون على أحد ولا تعرجون وهو من لوى بمعنى عطف وكثيرا ما يستعمل بمعنى وقف وانتظر لأن من شأن المنتظر أن يلوي عنقه ، وفسر أيضا بلا ترجعون وهو قريب من ذلك ، وذكر الطبرسي أن هذا الفعل لا يذكر إلا في النفي فلا يقال لويت على كذا ، وقرأ تلون بواو واحدة بقلب الواو المضمومة همزة وحذفها تخفيفا . الحسن
وقرئ ( تلوون ) بضم التاء على أنه من ألوى لغة في لوى ، ويلوون بالياء كيصعدون ، قال ويقرأ (على أحد) بضمتين وهو الجبل ، والتوبيخ عليه غير ظاهر ، ووجهه بعضهم بأن المراد أصحاب أحد أو مكان الوقعة وفيه إشارة إلى إبعادهم في استشعار الخوف وجدهم في الهزيمة حتى لا يلتفتون إلى نفس المكان . أبو البقاء
والرسول يدعوكم في أخراكم أي يناديكم في ساقتكم أو جماعتكم الأخرى أو يدعوكم من ورائكم فإنه يقال : جاء فلان في آخر الناس وأخرتهم وأخراهم إذا جاء خلفهم ، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للإيذان بأن دعوته صلى الله تعالى عليه وسلم كانت بطريق الرسالة من جهته تعالى مبالغة في توبيخ المنهزمين ، روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينادي : إلي عباد الله إلي عباد الله أنا رسول الله ، من يكر فله الجنة . وكان ذلك حين انهزم القوم وجدوا في الفرار قبل أن يصلوا إلى مدى لا يسمع فيه الصوت ، فلا ينافي ما تقدم عن أنه لما عرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم [ ص: 92 ] أشار إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام أن أنصت لأن ذلك كان آخر الأمر حيث أبعد المنهزمون ، والجملة في موضع الحال كعب بن مالك فأثابكم عطف على صرفكم والضمير المستتر عائد على الله تعالى والتعبير بالإثابة من باب التهكم على حد قوله .
تحية بينهم ضرب وجيع .
أو أنها مجاز عن المجازاة أي فجازاكم الله تعالى بما عصيتم غما بغم أي كربا بكرب والأكثرون على أنه لا فرق بين الغم والحزن ، والباء إما للمصاحبة والظرف مستقر أي جازاكم غما متصلا بغم ، والغم الأول ما حصل لهم من القتل والجرح وغلبة المشركين عليهم ، والغم الثاني ما حصل لهم من الإرجاف بقتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفوت الغنيمة ، وإلى هذا ذهب قتادة والربيع .
وقيل : الغم الثاني إشراف وأصحابه عليهم وهم مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الصخرة ، وحكي ذلك عن أبي سفيان ، وقيل : المراد مجرد التكثير أي جازاكم بغموم كثيرة متصل بعضها ببعض ، وإما للسببية والظرف متعلق بأثابكم ، والغم الأول للصحابة رضي الله تعالى عنهم بالقتل نحوه ، والغم الثاني للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بمخالفة أمره أي أثابكم غما بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعصيانكم له ومخالفتكم أمره ، وقال السدي الحسن بن علي المغربي : الغم الأول للمشركين بما رأوا من قوة المسلمين على طلبهم وخروجهم إلى حمراء الأسد ، والغم الثاني للمؤمنين بما نيل منهم أي فجازاكم بغم أعدائكم المشركين بسبب غم أذاقوه إياكم ، وقيل : الباء على هذا للبدل ، وكلا القولين بعيد ، والعطف عليه غير ظاهر ، وأبعد من ذلك ما روي عن أن الغم الأول للمؤمنين بما أصابهم يوم الحسن أحد ، والغم الثاني للمشركين بما نالهم يوم بدر ، والمعنى فجازاكم غما يوم أحد بالقتل والجرح بسبب غم أذقتموه المشركين يوم بدر كذلك ، واعترض عليه بأن ما لحق المشركين يوم بدر من جهة المسلمين إنما يوجب المجازاة بالكرامة دون الغم ، وقيل الضمير المستكن في أثابكم للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأثابكم بمعنى آساكم أي جعلكم أسوة له متساويين في الحزن ، فاغتم صلى الله تعالى عليه وسلم بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ، ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم وتنفيسا عنكم ، واعترض عليه بأنه خلاف الظاهر للزوم التفكيك على تقدير أن يكون العطف على صرفكم ، وعدم ظهور الترتب إلا بتكلف إن كان العطف على (يدعوكم) نعم التعليل عليه بقوله تعالى : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ظاهر إذ المعنى آساكم بذلك ليكلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا ما أصابكم من الشدائد ، وكذا على ما ذهب إليه المغربي ، وأما على الأوجه الأخر فالمعنى لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع ما فات أو ضر آت ، وإنما احتيج إلى هذا التأويل لأن المجازاة بالغم إنما تكون سببا للحزن لا لعدمه .
وقيل : (لا) زائدة والمعنى لكي تأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم ، فالتعليل حينئذ ظاهر ، ولا يخفى أن تأكيد لا وتكريرها يبعد القول بزيادتها ، وقيل : التعليل على ظاهره ، و (لا) ليست زائدة ، والكلام متعلق بقوله تعالى : ولقد عفا عنكم أي ولقد عفا الله تعالى عنكم لئلا تحزنوا إلخ ، فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن ، ولا يخفى ما فيه ، وربما يقال : إن أمر التعليل ظاهر أيضا على ما حكي عن من غير حاجة إلى التأويل ولا القول بزيادة – لا - ويوضح ذلك ما أخرجه السدي عن ابن جرير قال : أصاب الناس غم وحزن على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا ، فلما اجتمعوا في الشعب وقف مجاهد وأصحابه [ ص: 93 ] بباب الشعب ، فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضا فأصابهم حزن أنساهم حزنهم في أصحابهم فذلك قوله تعالى : أبو سفيان فأثابكم غما بغم إلخ ، وحديث : إن المجازاة بالغم إنما تكون سببا للحزن لا لعدمه غير مسلم على الإطلاق ، وأي مانع من أن يكون غم مخصوص سببا لزوال غم آخر مخصوص أيضا بأن يعظم الثاني فينسي الأول فتدبر .
والله خبير بما تعملون (153) عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها ، وفي المقصد الأسنى : الخبير بمعنى العليم ، لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة ، وسمي صاحبها خبيرا ، وفيه ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية .