قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم أي قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقدته الأيمان بالكفارة ، فالتحلة مصدر حلل كتكرمة من كرم ، وليس مصدرا مقيسا ، والمقيس التحليل والتكريم لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل ، وأصله تحللة فأدغم ، وهو من الحل ضد العقد فكأنه باليمين على الشيء لالتزامه عقد عليه وبالكفارة يحل ذلك ، ويحل أيضا بتصديق اليمين كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : يعني «لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم » وإن منكم إلا واردها [مريم : 71] إلخ ، وتحليله بأقل ما يقع عليه الاسم كمن حلف أن ينزل يكفي فيه إلمام خفيف ، فالكلام كناية عن التقليل أي قدر الاجتياز اليسير ، وكذا يحل بالاستثناء أي بقول الحالف : إن شاء الله تعالى بشرطه المعروف في الفقه .
ويفهم من كلام الكشاف أن التحليل يكون بمعنى الاستثناء ومعناه كما في الكشف تعقيب اليمين عند الإطلاق بالاستثناء حتى لا تنعقد ، ومنه حلا أبيت اللعن ، وعلى القول بأنه كان منه عليه الصلاة والسلام يمين كما جاء في بعض الروايات وهو ظاهر الآية اختلف هل أعطى صلى الله تعالى عليه وسلم الكفارة أم لا ؟ فعن أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين ، وفيه أن غفران الذنب لا يصلح دليلا لأن ترتب الأحكام الدنيوية على فعله عليه الصلاة والسلام ليس من المؤاخذة على الذنب كيف وغير مسلم أنه ذنب ، وعن الحسن مقاتل أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية ، وقد نقل في المدونة عن مالك أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الكفارة في تحريمه أم ولده حيث حلف أن لا يقربها ، ومثله عن زيد بن أسلم ، واختلف العلماء في حكم الشعبي فقيل : قال جماعة منهم قول الرجل لزوجته : أنت علي حرام أو الحلال علي حرام ولم يستثن زوجته مسروق وربيعة وأبو سلمة والشعبي وأصبغ : هو كتحريم الماء والطعام لا يلزمه شيء ، وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن عباس وابن مسعود وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والأوزاعي وأبو ثور وجماعة : هو يمين يكفرها ، أيضا في رواية ، وابن عباس في قول في أحد قوليه : فيه تكفير يمين وليس بيمين ، والشافعي يرى تحريم الحلال يمينا في كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاما فقد حلف على عدم أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم [ ص: 149 ] وأبو حنيفة
تكن له نية فإن نوى الظهار فظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن ، وكذلك إن نوى اثنتين وإن نوى ثلاثا فكما نوى ، وإن قال : نويت الكذب دين بينه وبين الله تعالى ، ولكن لا يدين في قضاء الحاكم بإبطال الإيلاء لأن اللفظ إنشاء في العرف ، وقال جماعة : إن لم يرد شيئا فهو يمين ، وفي التحرير قال وأصحابه : إن نوى الطلاق فواحدة بائنة أو اثنتين فواحدة أو ثلاثا فثلاث . أو لم ينو شيئا فمول . أو الظهار فظهار ، وقال أبو حنيفة ابن القاسم : لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقا ، وقال : يكون كذلك فإن ارتجعها فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار ، ويقع ما أراد من إعداده فإن نوى واحدة فرجعية وهو قول يحيى بن عمر ، وقال للشافعي الأوزاعي وسفيان وأبو ثور : أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئا فقال سفيان : لا شيء عليه ، وقال الأوزاعي وأبو ثور : تقع واحدة ، وقال : عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهارا ، وقال ابن جبير أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق : التحريم ظهار ففيه كفارته ، وعن إن نوى أنها محرمة كظهر أمه فظهار ، أو تحريم عينها بغير طلاق ، أو لم ينو فكفارة يمين ، وقال الشافعي : يقع ثلاث في المدخول بها وما أراد من واحدة أو ثنتين . أو ثلاث في غير المدخول بها ، وقال مالك ابن أبي ليلى وعبد الملك بن الماجشون : تقع ثلاث في الوجهين ، وروى ابن خويزمنداد عن ، وقاله مالك زيد وحماد بن أبي سليمان : تقع واحدة بائنة فيهما ، وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون : واحدة رجعية ، وقال أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم : يقع في التي لم يدخل بها واحدة وفي المدخول بها ثلاث ، وفي الكشاف لا يراه يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن ، وأما الطلاق فرجعي عنده ، وعن الشافعي كرم الله تعالى وجهه ثلاث ، وعن علي زيد واحدة بائنة ، وعن ظهار ، وأخرج عثمان البخاري ومسلم وابن ماجه عن والنسائي أنه قال : من حرم امرأته فليس بشيء . ابن عباس
وقرأ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب : 21] وللنسائي أنه أتاه رجل فقال : جعلت امرأتي علي حراما قال : كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة إلى غير ذلك من الأقوال ، وهي في هذه المسألة كثيرة جدا ، وفي نقل الأقوال عن أصحابها اختلاف كثير أيضا ، واحتج بما في هذه الآية من فرض تحليلها بالكفارة إن لم يستثن من رأى التحريم مطلقا ، أو تحريم المرأة يمينا لأنه لو لم يكن يمينا لم يوجب الله تعالى فيه كفارة اليمين هنا .
وأجيب بأنه لا يلزم من وجوب الكفارة كونه يمينا لجواز اشتراك الأمرين المتغايرين في حكم واحد فيجوز أن تثبت الكفارة فيه لمعنى آخر ، ولو سلم أن هذه الكفارة لا تكون إلا مع اليمين فيجوز أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم أقسم مع التحريم فقال في مارية : «والله لا أطؤها » أو في العسل » وقد رواه بعضهم فالكفارة لذلك اليمين لا للتحريم وحده ، والله تعالى أعلم . «والله لا أشربه
والله مولاكم سيدكم ومتولي أموركم وهو العليم فيعلم ما يصلحكم فيشرعه سبحانه لكم الحكيم المتقن أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا حسبما تقتضيه الحكمة