إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
من أنه بتأويل تبين أني لم تلدني لئيمة ، وجعلها جوابا من حيث الإعلام كما قيل في : إن تكرمني اليوم فقد أكرمتك أمس ، وقيل : الجواب محذوف تقديره يمح إثمكما ، وقوله تعالى : ابن الحاجب فقد صغت إلخ بيان لسبب التوبة ، وقيل : التقدير فقد أديتما ما يجب عليكما أو أتيتما بما يحق لكما ، وما ذكر دليل على ذلك قيل : وإنما لم يفسروا فقد صغت قلوبكما بمالت إلى الواجب أو الحق أو الخير حتى يصح جعله جوابا من غير احتياج إلى نحو ما تقدم لأن صيغة الماضي - وقد - وقراءة - فقد زاغت قلوبكما - وتكثير المعنى مع تقليل اللفظ تقتضي ما سلف ، وتعقب بأنه إنما يتمشى على ما ذهب إليه ابن مسعود ابن مالك من أن الجواب يكون ماضيا وإن لم يكن لفظ كان ، فيه نظر ، والجمع في قلوبكما دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد وهو في مثل ذلك أكثر استعمالا من التثنية والإفراد ، قال : لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر كقوله : أبو حيان
[ ص: 153 ]
حمامة بطن الواديين ترنمي
وغلط رحمه الله تعالى ابن مالك في قوله في التسهيل : ويختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية وإن تظاهرا عليه بحذف إحدى التاءين وتخفيف الظاء ، وهي قراءة عاصم في رواية ، ونافع وطلحة والحسن وأبي رجاء ، وقرأ الجمهور - تظاهرا - بتشديد الظاء ، وأصله تتظاهرا فأدغمت التاء في الظاء ، وبالأصل قرأ ، وقرأ عكرمة في رواية أخرى - تظهرا - بتشديد الظاء والهاء دون ألف ، والمعنى فإن تتعاونا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره . أبو عمرو
فإن الله هو مولاه أي ناصره والوقف على ما في البحر وغيره هنا أحسن ، وجعلوا قوله تعالى : وجبريل مبتدأ ، وقوله سبحانه : وصالح المؤمنين والملائكة معطوفا عليه ، وقوله عز وجل : بعد ذلك أي بعد نصرة الله تعالى متعلقا بقوله جل شأنه : ظهير وجعلوه الخبر عن الجميع ، وهو بمعنى الجمع أي مظاهرون ، واختير الإفراد لجعلهم كشيء واحد ، وجوز أن يكون خبرا عن " جبريل " وخبره ما بعده مقدر نظير ما قالوا في قوله :
ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وجوز أن يكون الوقف على جبريل أي وجبريل مولاه وصالح المؤمنين مبتدأ ، وما بعده معطوف عليه ، والخبر ظهير ، وظاهر كلام الكشاف اختيار الوقف على " المؤمنين " فظهير خبر الملائكة ، وعليه غالب مختصريه ، وظاهر كلامهم التقدير لكل من جبريل وصالح المؤمنين خبرا وهو إما لفظ مولى مرادا به مع كل معنى من معانيه المناسبة أي وجبريل مولاه أي قرينه وصالح المؤمنين مولاه أي تابعه ، أو لفظ آخر بذلك المعنى المناسب وهو قرينه في الأول وتابعه في تابعه ، ولا مانع من أن يكون المولى في الجمع بمعنى الناصر كما لا يخفى ، وزيادة " هو " على ما في الكشاف للإيذان بأن نصرته تعالى عزيمة من عزائمه وأنه عز وجل متولي ذلك بذاته تعالى ، وهو تصريح بأن الضمير ليس من الفصل في شيء ، وأنه للتقوي لا للحصر ، والحصر أكثري في المعرفتين على ما نقله في الإيضاح ، وإن كان كلام السكاكي موهما الوجوب وهذا والمبالغة محققة على ما نص عليه وحقق في الأصول ، وأما الحصر فليس من مقتضى اللفظ فلا يرد أن الأولى أن يكون سيبويه وجبريل وما بعده مخبرا عنه - بظهير - وإن سلم فلا ينافيه لأن نصرتهم نصرته تعالى فليس من الممتنع على نحو زيد المنطلق وعمرو ، كذا في الكشف ، ووجه تخصيص جبريل عليه السلام بالذكر مزيد فضله بل هو رأس الكروبيين ، والمراد بالصالح عند كثير الجنس الشامل للقليل والكثير ، وأريد به الجمع هنا ، ومثله قولك : كنت في السامر والحاضر ، ولذا عم بالإضافة ، وجوز أن يكون اللفظ جميعا ، وكان القياس أن يكتب - وصالحو -بالواو إلا أنها حذفت خطا تبعا لحذفها لفظا ، وقد جاءت أشياء في المصحف تبع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط نحو - ويدع الإنسان [الإسراء : 11] و يدع الداع [القمر : 6] و سندع الزبانية [العلق : 18] وهل أتاك نبأ الخصم [ص : 21] -إلى غير ذلك ، وذهب غير واحد إلى أن الإضافة للعهد فقيل : المراد به الأنبياء عليهم السلام .
وروي عن ابن زيد وقتادة والعلاء بن زياد ، ومظاهرتهم له قيل : تضمن كلامهم ذم المتظاهرين على نبي من الأنبياء عليهم السلام وفيه من الخفاء ما فيه وقيل : علي كرم الله تعالى وجهه ، وأخرجه ابن مردويه عن وابن عساكر ، وأخرج ابن عباس ابن مردويه قالت ، سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : أسماء بنت عميس وصالح المؤمنين ، علي بن أبي طالب وروى عن الإمامية عن أبي جعفر أن النبي [ ص: 154 ]
صلى الله تعالى عليه وسلم حين نزلت أخذ بيد كرم الله تعالى وجهه فقال : يا أيها الناس هذا صالح المؤمنين علي .
وأخرج ابن عساكر عن أنه قال : هو الحسن البصري ، وأخرج هو وجماعة عن عمر بن الخطاب قال : سعيد بن جبير وصالح المؤمنين نزل في خاصة ، وأخرج عمر بن الخطاب عن ابن عساكر أنه قال : مقاتل بن سليمان وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم ، وقيل : الخلفاء الأربعة . وعلي
وأخرج في الأوسط الطبراني عن وابن مردويه ابن عمر قالا : نزلت وابن عباس وصالح المؤمنين في أبي بكر ، وذهب إلى تفسيره بهما وعمر عكرمة وميمون بن مهران وغيرهما ، وأخرج عن الحاكم أبي أمامة والطبراني وابن مردويه في فضائل الصحابة عن وأبو نعيم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ابن مسعود وصالح المؤمنين أبو بكر ، وأخرج وعمر من طريق ابن عساكر عن الكلبي أبي صالح عن قال : كان أبي يقرؤها ابن عباس وصالح المؤمنين أبو بكر ، ورجح إرادة ذلك بأنه اللائق بتوسيطه بين وعمر جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وإن جبريل عليه السلام ظهير له صلى الله عليه وسلم يؤيده بالتأييدات الإلهية وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة مع أن بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشد تأثيرا في قلوب بنتيهما وتوهينا لأمرهما .
وأنا أقول العموم أولى ، وهما - وكذا كرم الله تعالى وجهه - يدخلان دخولا أوليا ، والتنصيص على بعض في الأخبار المرفوعة إذا صحت لنكتة اقتضت ذلك لا لإرادة الحصر ، ويؤيد ذلك ما أخرجه علي ابن عساكر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك : من صالح المؤمنين ابن مسعود أبو بكر وعمر ، وفائدة عن بعد ذلك التنبيه على أن نصرة الملائكة عليهم السلام أقوى وجوه نصرته عز وجل وإن تنوعت ، ثم لا خفاء في أن نصرة جميع الملائكة - وفيهم جبريل - أقوى من نصرة جبريل عليه السلام وحده .
وقيل : الإشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة فالتعظيم بالنسبة إليها ، وفي التنبيه على هذا دفع توهم ما يوهمه الترتيب الذكري من أعظمية مظاهرة المتقدم ، وبالجملة فائدة بعد ذلك نحو فائدة - ثم - في قوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا وهو التفاوت الرتبي أي أعظمية رتبة ما بعدها بالنسبة إلى ما قبلها وهذا لا يتسنى على ما نقل عن البحر بل ذلك للإشارة إلى تبعية المذكورين في النصرة والإعانة عز وجل ، وأيا ما كان فإن شرطية - وتظاهرا - فعل الشرط ، والجملة المقرونة بالفاء دليل الجواب ، وسبب أقيم مقامه ، والأصل فإن تظاهرا عليه فلن يعدم من يظاهره فإن الله مولاه ، وجوز أن تكون هي بنفسها الجواب على أنها مجاز أو كناية عن ذلك ، وأعظم جل جلاله شأن النصرة لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على هاتين الضعيفتين إما للإشارة إلى عظم مكر النساء أو للمبالغة في قطع حبال طمعهما لعظم مكانتهما عند رسول الله عليه الصلاة والسلام وعند المؤمنين ولأمومتهما لهم وكرامة له صلى الله عليه وسلم ورعاية لأبويهما في أن تظاهرهما يجديهما نفعا .
وقيل : المراد المبالغة في توهين أمر تظاهرهما ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره في أمر النبوة والتبليغ وقهر أعداء الدين لما أن العادة قاضية باشتغال بال الرجل بسبب تظاهر أزواجه عليه ، وفيه أيضا مزيد إغاظة للمنافقين وحسم لأطماعهم الفارغة فكأنه قيل : فإن تظاهرا عليه لا يضر ذلك في أمره فإن الله تعالى هو مولاه وناصره في أمر دينه وسائر شؤونه على كل من يتصدى لما يكرهه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك مظاهرون له ومعينون إياه كذلك ، ويلائم هذا ترك ذكر المعان عليه حيث [ ص: 155 ]
لم يقل ظهير له عليكما مثلا ، وكذا ترك ذكر المعان فيه وتخصيص - صالح المؤمنين - بالذكر ، وتقوى هذه الملاءمة على ما روي عن من تفسير - صالح المؤمنين - بمن برئ من النفاق فتأمل . ابن جبير