إنا أنذرناكم أي: بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث بما فيه وما بعده من الدواهي أو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن العظيم.
عذابا قريبا : هو عذاب الآخرة وقربه لتحقق إتيانه؛ فقد قيل: ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت، أو لأنه قريب بالنسبة إليه عز وجل، أو يقال: البرزخ داخل في الآخرة ومبدؤه الموت، وهو قريب حقيقة كما لا يخفى على من عرف القرب والبعد، وعن هو عقوبة الذنب لأنه أقرب العذابين، وعن قتادة هو قتل مقاتل: قريش يوم بدر، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ; فإن الظاهر أنه [ ص: 22 ] ظرف لمضمر هو صفة عذابا؛ أي: عذابا كائنا يوم... إلخ. وليس ذلك اليوم إلا يوم القيامة، وكذا على ما قيل من أنه بدل من عذابا، أو ظرف ل: قريبا .
وعلى هذا الأخير قيل: لا حاجة إلى توجيه القرب؛ لأن العذاب في ذلك اليوم قريب لا فاصل بينه وبين المرء، ونظر فيه بأن الظاهر جعل المنذر به قريبا في وقت الإنذار؛ لأنه المناسب للتهديد والوعيد؛ إذ لا فائدة في ذكر قربه منهم يوم القيامة، فإذا تعلق به فالمراد بيان قرب اليوم نفسه. فتأمل.
والظاهر أن المرء عام للمؤمن والكافر. و «ما» موصولة منصوبة ب ينظر والعائد محذوف، والمراد يوم يشاهد المكلف المؤمن والكافر ما قدمه من خير أو شر، وجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة ب قدمت أي: ينظر أي شيء قدمت يداه، والجملة معلق عنها؛ لأن النظر طريق العلم، والكلام في قوله: ينظر جواب: ما قدمت يداه، وفي الكلام على ما ذكره العلامة التفتازاني تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه حيث ذكر اليدان لأن أكثر الأعمال تزاول بهما، فجعل الجميع كالواقع بهما تغليبا، وقرأ ابن أبي إسحاق: «المرء» بضم الميم، وضعفها ولا ينبغي أن تضعف؛ لأنها لغة بعض أبو حاتم، العرب يتبعون حركة الهمزة فيقولون: مرء، ومرأ ومرء، على حسب الإعراب.
ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا تخصيص لأحد الفريقين اللذين تناولهما المرء فيما قبل منه بالذكر وخص قول الكافر دون المؤمن لدلالة قوله على غاية الخيبة ونهاية التحسر ودلالة حذف قول المؤمنين على غاية التبجح ونهاية الفرح والسرور، وقال ( المرء ) هنا الكافر؛ لقوله تعالى: عطاء: إنا أنذرناكم وكان الظاهر عليه الضمير فيما بعد، إلا أنه وضع الظاهر موضعه لزيادة الذم، وفيه أن تناول الفريقين هو المطابق لما سبق من صف يوم مفصل لما اشتمل على حالهما وهو الوجه لقوله تعالى: فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا و إنا أنذرناكم .
لا يخص الكافر لأن الإنذار عام للفريقين أيضا، فلا دلالة على الاختصاص، وقال ابن عباس وقتادة المراد به المؤمن، قال والحسن: الإمام: دل عليه قول الكافر فيما كان هذا بيانا لحال الكافر وجب أن يكون الأول بيانا لحال المؤمن، ولا يخفى ما فيه من الضعف كاستدلال الرياشي بالآية على أن المرء لا يطلق إلا على المؤمن، وأراد الكافر بقوله هذا يا ليتني كنت ترابا في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم أبعث. وعن ابن عمر وأبي هريرة أن الله تعالى يحضر البهائم فيقتص لبعضها من بعض، ثم يقول سبحانه لها: كوني ترابا، فيعود جميعها ترابا، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله. وإلى حشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض ذهب الجمهور، وسيأتي الكلام في ذلك في سورة التكوير إن شاء الله تعالى، وقيل: الكافر في الآية إبليس عليه اللعنة لما شاهد ومجاهد آدم عليه الصلاة والسلام ونسله المؤمنين وما لهم من الثواب تمنى أن يكون ترابا؛ لأنه احتقره لما قال: خلقتني من نار وخلقته من طين وهو بعيد عن السياق وإن كان حسنا، والتراب على جميع ما ذكر بمعناه المعروف، والكلام على ظاهره وحقيقته، وجوز لا سيما على الأخير أن يكون المراد بقول: ليتني كنت في الدنيا متواضعا لطاعة الله تعالى لا جبارا ولا متكبرا، والمعول عليه ما تقدم كما لا يخفى.