إن شانئك أي: مبغضك كائنا من كان هو الأبتر الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان.
وأصل البتر القطع وشاع في قطع الذنب؛ وقيل لمن لا عقب له: أبتر على الاستعارة، شبه الولد والأثر الباقي بالذنب لكونه خلفه فكأنه بعده، وعدمه بعدمه وفسره بالحقير الذليل وليس بذاك كما يفصح عنه سبب النزول وفيها عليه دلالة على أن أولاد البنات من الذرية كما قال غير واحد. قتادة
واسم الفاعل أعني شانئ هاهنا قيل بمعنى الماضي ليكون معرفة بالإضافة فيكون الأبتر خبره ولا يشكل بمن كان يبغضه عليه الصلاة والسلام قبل الإيمان من أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم هداه الله تعالى للإيمان وذاق حلاوته فكان صلى الله تعالى عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأعز عليه من روحه ولم يكن أبتر؛ لما أن الحكم على المشتق يفيد علية مأخذه فيفيد الكلام أن الأبترية معللة [ ص: 248 ] بالبغض فتدور معه، وقد زال في أولئك الأكابر رضي الله تعالى عنهم.
واختار بعضهم في دفع ذلك حمل اسم الفاعل على الاستمرار فهم لم يستمروا على البغض، والظاهر أنه انقطع نسل كل من كان مبغضا له عليه الصلاة والسلام حقيقة، وقيل: انقطع حقيقة أو حكما؛ لأن من أسلم من نسل المبغضين انقطع انتفاع أبيه منه بالدعاء ونحوه؛ لأنه لا عصمة بين مسلم وكافر.
وما أشرنا إليه من أن «هو» ضمير فصل هو الأظهر، وجوز أن يكون مبتدأ خبره الأبتر والجملة خبر شانئك وحينئذ يجوز صناعة أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال.
وحمل شانئك على الجنس هو الظاهر وخصه بعضهم بمن جاء في سبب النزول واحدا أو متعددا وفيه روايات:
أخرج ابن سعد من طريق وابن عساكر عن الكلبي أبي صالح عن قال: كان أكبر ولد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ابن عباس القاسم ثم ثم زينب عبد الله ثم ثم أم كلثوم ثم فاطمة فمات رقية، القاسم عليه السلام وهو أول ميت من ولده عليه الصلاة والسلام بمكة، ثم مات عبد الله عليه السلام فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع نسله فهو أبتر؛ فأنزل الله تعالى: إن شانئك هو الأبتر .
وأخرج ابن أبي حاتم عن وابن جرير شمر بن عطية قال: كان عقبة بن أبي معيط يقول: إنه لا يبقى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم عقب، وهو أبتر، فأنزل الله تعالى فيه: إن شانئك هو الأبتر .
وأخرج الطبراني عن وابن مردويه أبي أيوب قال: إبراهيم ابن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا: إن هذا الصابئ قد بتر الليلة، فأنزل الله تعالى: إنا أعطيناك السورة. لما مات
وأخرج وغيره عن عبد بن حميد أنه قال في الآية: هو ابن عباس أبو جهل؛ أي لأنها نزلت فيه، وهذا المقدار في الرواية عن لا بأس به. ابن عباس
وحكاية أبي حيان عنه أنه لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال: بتر محمد عليه الصلاة والسلام. فأنزل الله تعالى: إن شانئك هو الأبتر لا تكاد تصح؛ لأن هلاك اللعين أبي جهل على التحقيق قبل وفاة إبراهيم عليه السلام.
وعن أنها نزلت في عطاء أبي لهب، والجمهور على نزولها في العاص بن وائل، وأيا ما كان فلا ريب في ظهور عموم الحكم والجملة كالتعليل لما يفهمه الكلام؛ فكأنه قيل: إنا أعطيناك ما لا يدخل تحت الحصر من النعم فصل وانحر خالصا لوجه ربك ولا تكترث بقول الشانئ الكريه؛ فإنه هو الأبتر لا أنت، وتأكيدها قيل: للاعتناء بشأن مضمونها، وقيل: هو مثله في نحو قوله تعالى: ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون وذلك لمكان: فلا تكترث... إلخ. المفهوم من السياق. وفي التعبير بالأبتر دون المبتور على ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ما لا يخفى من المبالغة، وعمم هذا الشيخ عليه الرحمة كلا من جزأي الجملة، فقال: إنه سبحانه يبتر شانئي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من كل خير فيبتر أهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته تعالى ومحبته والإيمان برسله عليهم السلام، ويبتر أعماله فلا يستعمله سبحانه في طاعته، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا، ويبتره من جميع القرب فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها وهذا جزاء كل من شنأ ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لأجل هواه كمن تأول آيات الصفات أو أحاديثها على غير مراد الله تعالى ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام، أو تمنى أن لا تكون نزلت أو قيلت.
ومن أقوى العلامات على شنآنه نفرته عنها إذا سمعها حين يستدل بها السلفي على ما دلت عليه من الحق، وأي شنآن للرسول عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك، وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والدفوف والشبابات فإذا سمعوا القرآن يتلى أو قرئ في مجلسهم استطالوه واستثقلوه، وكذلك من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة إلى غير ذلك ولكل نصيب من الانبتار على قدر شنآنه انتهى. وفي بعضه نظر لا يخفى.
وقرأ «شنيك» بغير [ ص: 249 ] ألف فقيل: مقصور من شاني كما قالوا برد في بارد، وبر في بار، وجوز أن يكون بناء على فعل. هذا وأعلم أن هذه السورة الكريمة على قصرها وإيجازها قد اشتملت على ما ينادي على عظيم إعجازها، وقد أطال ابن عباس: الإمام فيها الكلام وأتى بكثير مما يستحسنه ذوو الأفهام، وذكر أن قوله تعالى: وانحر متضمن الإخبار بالغيب وهو سعة ذات يده صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته، وقيل مثله في ذلك: إن شانئك هو الأبتر . وذكر أنه روي أن مسيلمة الكذاب عارضها بقوله: إنا أعطيناك الزماجر فصل لربك وهاجر إن مبغضك رجل كافر.
ثم بين الفرق من عدة أوجه وهو لعمري مثل الصبح ظاهر، ومن أراد الاطلاع على أزيد مما ذكر فليرجع إلى تفسير الإمام. والله تعالى ولي التوفيق والإنعام.