[ ص: 85 ] ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم نزلت - كما قال - في الكلبي عبد الرحمن بن عوف الزهري، والمقداد بن الأسود الكندي، وقدامة بن مظعون الجمحي، كان يلقون من المشركين أذى شديدا وهم وسعد بن أبي وقاص، بمكة قبل الهجرة، فيشكون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: ائذن لنا يا رسول الله في قتال هؤلاء فإنهم قد آذونا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كفوا أيديكم وأمسكوا عن القتال فإني لم أومر بذلك» وفي رواية: «إني أمرت بالعفو».
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واشتغلوا بما أمرتم به، ولعل أمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ تنبيها على أن الجهاد مع النفس مقدم ،وما لم يتمكن المسلم في الانقياد لأمر الله تعالى بالجود بالمال لا يكاد يتأتى منه الجود بالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المقصود والمعتبر في التعجيب المشار إليه في صدر الكلام إنما هو كمال رغبتهم في القتال، وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه، وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره بطريق الكناية، فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض، وقيل: للإيذان بكون ذلك بأمر الله تعالى.
فلما كتب عليهم القتال وأمروا به بعد أن هاجروا مع رسول الله إلى المدينة إذا فريق منهم يخشون الناس أي الكفار أن يقتلوهم، وذلك ركز في طباع البشر من خوف الهلاك كخشية الله أي كما يخشون الله تعالى أن ينزل عليهم بأسه، والفاء عاطفة، وما بعدها عطف على قيل لهم كفوا أيديكم باعتبار معناه الكنائي، إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولي المعطوفين، وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل: ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه - بمقتضى البشرية - جماعة منهم، وتوجيه التعجيب إلى الكل مع أن تلك الكراهة إنما كانت من البعض للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدر من أحدهم ما ينافي حالته الأولى، و(إذا) للمفاجأة، وهي ظرف مكان، وقيل: زمان، وليس بشيء، وفيها تأكيد لأمر التعجيب، و(فريق) مبتدأ، و(منهم) صفته، و(يخشون) خبره، وجوز أن يكون صفة أيضا أو حالا، والخبر (إذا) و(كخشية الله) في موقع المصدر، أي: خشية كخشية الله، وجوز أن يكون حالا من فاعل (يخشون) ويقدر مضاف، أي: حال كونهم مثل أهل خشية الله تعالى، أي: مشبهين بأهل خشيته سبحانه، وقيل - وفيه بعد -: إنه حال من ضمير مصدر محذوف، أي: يخشونها الناس كخشية الله أو أشد خشية عطف عليه إن جعلته حالا، أي أنهم أشد خشية من أهل خشية الله، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشيتهم، ويعطف عليه على تقدير المصدرية على ما قيل بناء على أن (خشية) منصوب على التمييز، وعلى أن التمييز متعلق الفاعلية، وأن المجرور بمن التفضيلية يكون مقابلا للموصوف بأفعل التفضيل، فيصير المعنى: إن خشيتهم أشد من خشية غيرهم، ويؤول إلى أن خشية خشيتهم أشد، وهو غير مستقيم، اللهم إلا على طريقة جد جده، على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني، ويكون كقولك: زيد جد جدا بنصب (جدا) على التمييز لكنه بعيد، بل يعطف على الاسم الجليل فهو مجرور بالفتحة لمنع صرفه، والمعنى: يخشون الناس خشية كخشية الله أو خشية كخشية أشد خشية منه تعالى، ولكن على سبيل الفرض إذ لا أشد خشية عند المؤمنين من الله تعالى، ويؤول هذا إلى تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة واحدة، وذكر أنه يجوز أن يكون هذا العطف من عطف الجمل، أي يخشون الناس كخشية [ ص: 86 ] الناس، أو يخشون أشد خشية، على أن الأول مصدر، والثاني حال، وقيل عليه: إن حذف المضاف أهون من حذف الجملة وأوفى بمقتضى المقابلة وحسن المطابقة. ابن الحاجب
وجوز أن يكون (خشية) منصوبا على المصدرية، و(أشد) صفة لما قدمت عليه فانتصب على الحالية، وذكر بعضهم أن التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون نفس ما انتصب عنه، نحو: (الله خير حافظا) فإن الحافظ هو الله تعالى، كما لو قلت: (الله خير حافظ) بالجر، وحينئذ لا مانع من أن تكون الخشية نفس الموصوف، ولا يلزم أن يكون للخشية خشية، بمنزلة أن يقال: أشد خشية بالجر، والقول بأن جواز هذا فيما إذا كان التمييز نفس الموصوف بحسب المفهوم واللفظ محل نظر، محل نظر، إذ اتحاد اللفظ مع حذف الأول ليس فيه كبير محذور.
وهذا إيراد قوي على ما قيل، وقد نقل ابن المنير عن الكتاب ما يعضده، فتأمل، و(أو) قيل: للتنويع، وقيل: للإبهام على السامع، وقيل: للتخبير، وقيل: بمعنى الواو، وقيل بمعنى بل، وقالوا عطف على جواب (لما) أي: فلما كتب عليهم القتال فاجأ بعضهم بألسنتهم أو بقلوبهم، وحكاه الله تعالى عنهم على سبيل تمني التخفيف لا الاعتراض على حكمه تعالى، والإنكار لإيجابه، ولذا لم يوبخوا عليه ربنا لم كتبت علينا القتال في هذا الوقت.
لولا أخرتنا إلى أجل قريب وهو الأجل المقدر، ووصف بالقريب للاستعطاف، أي أنه قليل لا يمنع من مثله، والجملة كالبيان لما قبلها، ولذا لم تعطف عليه، وقيل: إنما لم تعطف عليه للإيذان بأنهما مقولان مستقلان لهم، فتارة قالوا الجملة الأولى، وتارة الجملة الثانية، ولو عطفت لتبادر أنهم قالوا مجموع الكلامين بعطف الثانية على الأولى قل أي تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود عن القتال والتأخير إلى الأجل المقدر من المتاع الفاني، وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي متاع الدنيا أي جميع ما يستمتع به، وينتفع في الدنيا قليل في نفسه، سريع الزوال، وهو أقل قليل بالنسبة إلى ما في الآخرة والآخرة أي ثوابها المنوط بالأعمال التي من جملتها القتال خير لكم من ذلك المتاع القليل؛ لكثرته، وعدم انقطاعه، وصفائه عن الكدورات، وفي اختلاف الأسلوب ما لا يخفى، وإنما قال سبحانه: لمن اتقى حثا لهم وترغيبا على الاتقاء والإخلال بموجب التكليف، وقيل: المراد أن نفس الآخرة خير ولكن للمتقين؛ لأن للكافر والعاصي هنالك نيرانا وأهوالا، ولذا قيل: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ولا يخفى أن الأول أنسب بالسياق.
ولا تظلمون فتيلا عطف على مقدر، أي تجزون فيها ولا تبخسون هذا المقدار اليسير فضلا عما زاد من ثواب أعمالكم، فلا ترغبوا عن القتال الذي هو من غرورها، وقرأ وكثير: (ولا يظلمون) بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر (من). ابن كثير،