وإذا جاءهم أي: المنافقين، كما روي عن - رضي الله تعالى عنهما - ابن عباس والضحاك وأبي معاذ، أو ضعفاء المسلمين، كما روي عن وذهب إليه غالب المفسرين، أو الطائفتين كما نقله الحسن، ابن عطية أمر من الأمن أو الخوف أي: مما يوجب الأمن والخوف أذاعوا به أي: أفشوه، والباء مزيدة، وفي الكشاف يقال: أذاع الشر وأذاع به، ويجوز أن يكون المعنى: فعلوا به الإذاعة، وهو [ ص: 94 ] أبلغ من (أذاعوه) لدلالته على أنه يفعل نفس الحقيقة، كما في نحو: (فلان يعطي ويمنع) ولما فيه من الإبهام والتفسير، وقيل: الباء لتضمن الإذاعة معنى التحديث، وجعلها بمعنى مع والضمير للمجيء مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه.
والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين، أو لبيان جناية الضعفاء إثر بيان جناية المنافقين، وذلك أنه إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يخبرهم به، ولا يكاد يخلو ذلك عن مفسدة، وقيل: كانوا يقفون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف فيذيعونه، فينشر فيبلغ الأعداء، فتعود الإذاعة مفسدة، وقيل: الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه، فيعود ذلك وبالا على المؤمنين، وفيه إنكار على من يحدث بالشيء قبل تحقيقه.
وقد أخرج عن مسلم، مرفوعا: أبي هريرة والجملة عند صاحب الكشف معطوفة على قوله تعالى: (ويقولون طاعة). «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع»
وقوله سبحانه: (أفلا يتدبرون) اعتراض، تحذيرا لهم عن الإضمار لما يخالف الظاهر، فإن في تدبر القرآن جارا إلى طاعة المنزل عليه أي جار! وقيل: الكلام مسوق لدفع ما عسى أن يتوهم في بعض المواد من شائبة الاختلاف بناء على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام، لا لتخلف مدلوله عنه، وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أوحي إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولا ضبط لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل، وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالإذاعة، فلا يظهر أثره المتوقع، فيكون ذلك منشأ لتوهم الاختلاف، ولا يخلو عن حسن، غير أن روايات السلف على خلافه.
وأيا ما كان فقد نعى الله تعالى ذلك عليهم، وقال سبحانه: ولو ردوه أي: ذلك الأمر الذي جاءهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر منهم وهم كبائر الصحابة - رضي الله عنهم - البصراء في الأمور، وهو الذي ذهب إليه الحسن وخلق كثير. وقتادة
وقال السدي، وابن زيد، وأبو علي الجبائي: المراد بهم أمراء السرايا والولاة، وعلى الأول المعول لعلمه أي: لعلم تدبير ذلك الأمر الذي أخبروا به الذين يستنبطونه منهم أي: يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايده، أو لو ردوه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن ذكر، وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون، أو (لو ردوه إلى الرسول) صلى الله عليه وسلم، وإلى كبار أصحابه - رضي الله تعالى عنهم – وقالوا: نسكت حتى نسمعه منهم ونعلمه هل مما يذاع أو لا يذاع لعلم صحته، وهل هو مما يذاع أو لا، هؤلاء المذيعون، وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر، أي: يتلقونه منهم، ويستخرجون علمه من جهتهم، أو لو عرضوه على رأيه عليه الصلاة والسلام مستكشفين لمعناه، وما ينبغي له من التدبير، وإلى أجلة صحبه رضي الله تعالى عنهم لعلم الرادون معناه وتدبيره، وهم الذين يستنبطونه ويستخرجون علمه وتدبيره من جهة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ومن تشرف بالعطف عليه، والتعبير بالرسالة لما أنها من موجبات الرد.
وكلمة (من) إما ابتدائية، والظرف لغو متعلق بـ(يستنبطونه)، وإما تبعيضية أو بيانية تجريدية، والظرف حال، ووضع [ ص: 95 ] الموصول موضع الضمير في الاحتمالين الأخيرين للإيذان بأنه ينبغي أن يكون القصد بالرد استكشاف المعنى واستيضاح الفحوى، والاستنباط في الأصل استخراج الشيء من مأخذه، كالماء من البئر، والجوهر من المعدن، ويقال للمستخرج: نبط بالتحريك، ثم تجوز به فأطلق على كل أخذ وتلق.
ولولا فضل الله عليكم ورحمته خطاب للطائفة المذكورة آنفا، بناء على أنهم ضعفة المؤمنين على طريقة الالتفات، والمراد من الفضل والرحمة شيء واحد، أي: لولا فضله سبحانه عليكم ورحمته بإرشادكم إلى سبيل الرشاد، الذي هو الرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى أولي الأمر لاتبعتم الشيطان وعملتم بآرائكم الضعيفة، أو أخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وتذرون، ولم تهتدوا إلى صوب الصواب إلا قليلا وهم أولو الأمر المستنيرة عقولهم بأنوار الإيمان الراسخ، الواقفون على الأسرار، الراسخون في معرفة الأحكام بواسطة الاقتباس من مشكاة النبوة، فالاستثناء منقطع، أو الخطاب للناس، أي: ولولا فضل الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ورحمته بإنزال القرآن، كما فسرهما السدي وهو اختيار والضحاك، ولا يبعد العكس الجبائي، لاتبعتم كلكم الشيطان وبقيتم على الكفر والضلالة إلا قليلا منكم قد تفضل عليه بعقل راجح، فاهتدى به إلى الطريق الحق، وسلم من مهاوي الضلالة، وعصم من متابعة الشيطان من غير إرسال الرسول - عليه الصلاة والسلام - وإنزال الكتاب، كقس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل وأضرابهم، فالاستثناء متصل، وإلى ذلك ذهب الأنباري.
وقال أبو مسلم: المراد بفضل الله ورحمته النصرة والمعونة مرة بعد أخرى، والمعنى: لولا حصول النصرة والظفر لكم على سبيل التتابع (لاتبعتم الشيطان) فيما يلقي إليكم من الوساوس والخواطر المؤدية إلى الجبن والفشل والركون إلى الضلال وترك الدين (إلا قليلا) وهم من أهل البصائر النافذة، والعزائم المتمكنة، والنيات الخالصة، من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقا حصول الدولة في الدنيا، أو باطلا حصول الانكسار والانهزام، بل مدار الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل، ولا يرد أنه يلزم من جعل الاستثناء من الجملة التي وليها جواز أن ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه، وليس لله تعالى عليه في ذلك فضل، ومعاذ الله تعالى أن يعتقد هذا مسلم موحد سنيا كان أو معتزليا، وذلك لأن لولا حرف امتناع لوجود، وقد أنبأت أن امتناع اتباع المؤمنين للشيطان في الكفر وغيره إنما كان بفضل الله تعالى عليهم، فالفضل هو السبب المانع من اتباع الشيطان، فإذا جعل الاستثناء مما ذكر فقد سلبت تأثير فضل الله تعالى في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة، وجعلهم مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر بأنفسهم لا بفضل الله تعالى، ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليه: لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا، كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه في تأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله، لأنا نقول هذا إذا عم الفضل لا إذا خص كما أشرنا إليه؛ لأن عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص ينافي أن يكون بفضل آخر، نعم، ظاهر عبارة الكشاف في هذا المقام مشكل، حيث جعل الاستثناء من الجملة الأخيرة، وزاد التوفيق في البيان، ويمكن أن يقال أيضا: أراد به توفيقا خاصا نشأ مما قبله، وهذا أولى من الإطلاق ودفع الإشكال بأن عدم الفضل والرحمة على الجميع لا يلزم منه العدم على [ ص: 96 ] البعض لما فيه من التكلف.
وذهب بعضهم للتخلص من الإيراد إلى الاستثتاء من قوله تعالى: أذاعوا به)، وروي ذلك عن وهو اختيار ابن عباس، المبرد، والكسائي، والفراء، والبلخي، واتخذ والطبري، القاضي أبو بكر الآية دليلا في الرد على من جزم بعود الاستثناء عند تعدد الجمل إلى الأخيرة.
وعن بعض أهل اللغة أن الاستثناء من قوله سبحانه: لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وعن أكثرهم أنه من قوله تعالى: لعلمه الذين يستنبطونه واعترضه الفراء بأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله، وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك، وتعقب ذلك والمبرد بأنه غلط؛ لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض، إنما هو استنباط خبر، وإذا كان ذلك فالأكثرون يعرفونه ولا يجهله إلا البالغ في البلادة، وفيه نظر، وبعضهم إلى جعل الاستثناء مفرغا من المصدر فما بعد (إلا) منصوب على أنه مفعول مطلق، أي: لاتبعتموه كل اتباع إلا اتباعا قليلا، بأن تبقوا على إجراء الكفر وآثاره إلا البقاء القليل النادر بالنسبة إلى البعض، وذلك قد يكون بمجرد الطبع والعادة، وأحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق عند الإمام ما ذكره الزجاج أبو مسلم، وأيد التخصيص فيما ذهب إليه الأنباري بأن قوله تعالى: من يطع الرسول إلخ، وقوله سبحانه: أفلا يتدبرون القرآن يشهدان له، وفي الذي بعده بأن قوله - عز وجل -: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف إلخ.