درجات قدم عليها فانتصب على الحال، ولكونه مصدرا في الأصل يستوي فيه الواحد وغيره جاز نعت الجمع به بعيد.
وجوز في (درجات) أن يكون بدلا من أجرا بدل الكل مبينا لكمية التفضيل، وأن يكون حالا أي: ذوي درجات، وأن يكون واقعا موقع الظرف، أي: في درجات.
وقوله سبحانه: منه متعلق بمحذوف وقع صفة لـ(درجات) دالة على فخامتها وعلو شأنها.
أخرج عن عبد بن حميد، ابن محيرز أنه قال: «هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة».
وأخرج مسلم، وأبو داود، عن والنسائي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أبي سعيد، وبمحمد - عليه الصلاة والسلام -رسولا وجبت له الجنة» فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله، فأعادها عليه، ثم قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «وأخرى يرفع الله تعالى بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله تعالى» وعن «من رضي بالله تعالى ربا، وبالإسلام دينا، أنها سبعمائة. السدي
وجوز أن يكون انتصاب (درجات) على المصدرية، كما في قولك: ضربته أسواطا، أي: ضربات، كأنه قيل: فضلهم تفضيلات، وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة، وقيل: إنه على بابه.
والمراد بالدرجات ما ذكر في آية (براءة ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إلى قوله سبحانه: ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ، ونسب إلى عبد الله بن زيد.
وقوله عز شأنه: ومغفرة عطف على (درجات) الواقع بدلا من (أجرا) بدل الكل إلا أن هذا بدل البعض منه؛ لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة، أي: ومغفرة عظيمة لما يفرط منهم من الذنوب، التي لا يكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون، فحينئذ تعد من خصائصهم، وقوله تعالى: ورحمة عطف عليه أيضا، وهو بدل الكل من (أجرا) وجوز أن يكون انتصابهما بفعل مقدر أي: غفر لهم مغفرة، ورحمهم رحمة.
هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة وتقييده تارة بـ(درجة) وأخرى بـ(درجات) مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يستدعيه الظاهر إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيدا لسلوك طريق الإبهام، ثم التفسير، وإما لمزيد التحقيق والتقرير المؤذن بأن فضل المجاهدين بمحل لا تستطيع طير الأفكار الخضر أن تصل إليه، ولما كان هذا مما يكاد أن يتوهم منه حرمان القاعدين اعتنى سبحانه بدفع ذلك بقوله عز قائلا: وكلا وعد الله الحسنى ثم أراد جل شأنه تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة، فقال ما قال وسد باب الاحتمال.
[ ص: 124 ] ولا يخفى ما في الإبهام والتفسير من العطف، وأما ما قيل من إفراد الدرجة أولا؛ لأن المراد هناك تفضيل كل مجاهد والجمع ثانيا؛ لأن المراد فيه تفضيل الجمع ففي الدرجات مقابلة الجمع بالجمع فلكل مجاهد درجة، ومآل العبارتين واحد، والاختلاف تفنن فمن الكلام الملفوظ، لا من اللوح المحفوظ.
وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات، وفي هذا رغب واستطيبه الراغب، الطيبي على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيقي بكونه درجة واحدة، وبالتفضيل الثاني ما ادخره سبحانه لهم من الدرجات العالية والمنازل الرفيعة المتعالية عن الحصر، كما ينبئ عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما، كأنه قيل: فضلهم في الدنيا درجة واحدة وفي الأخرى درجات لا تحصى، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود - أعني الوعد بالجنة - توضيحا لحالهما، ومسارعة إلى تسلية المفضول، كذا قرره الفاضل مولانا شيخ الإسلام.
وقيل: المراد من التفضيل الأول رضوان الله تعالى ونعيمه الروحاني، ومن التفضيل الثاني نعيم الجنة المحسوس، وفيه أن عطف المغفرة والرحمة يبعد هذا التخصيص، وقيل: المراد من المجاهدين الأولين من جاهد الكفار، ومن المجاهدين الآخرين من جاهد نفسه، وزيد لهم في الأجر لمزيد فضلهم، كما يدل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وفيه أن السياق وسبب النزول يأبيان ذلك، والحديث الذي ذكره لا أصل له كما قال المحدثون.
وقيل: المراد من القاعدين في الأول الأضراء، وفي الثاني غيرهم، كما قال وأخرجه عنه ابن جريج، وفيه من تفكيك النظم ما لا يخفى. ابن جرير،
بقي أن الآية لا تدل نصا على حكم أولي الضرر بناء على التفسير المقبول عندنا، نعم، في بعض الأحاديث ما يؤذن بمساواتهم للمجاهدين، فقد صح من حديث - رضي الله تعالى عنه – أنس تبوك فدنا من المدينة قال: «إن في المدينة لأقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال: نعم، وهم بالمدينة، حبسهم العذر» وعليه دلالة مفهوم الصفة والاستثناء في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من غزوة غير أولي الضرر وعن أنه قال: إلا أولو الضرر؛ فإنهم يساوون المجاهدين، وعن بعضهم: إن هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى غير الضرر قد ذكرت في قوله تعالى: الزجاج ليس على الضعفاء ولا على المرضى إلى قوله سبحانه: إذا نصحوا لله ورسوله والذي يشهد له النقل والعقل أن الأضراء أفضل من غيرهم درجة، كما أنهم دون المجاهدين في الدرجة الدنيوية، وأما أنهم مساوون لهم في الدرجة الأخروية فلا قطع به، والآية - على ما قاله - تدل على أنهم دونهم في ذلك أيضا. ابن جريج
وقد أخرج من طريق ابن المنذر، ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن كان بعد نزول الآية يغزو ويقول: «ادفعوا إلي اللواء، وأقيموني بين الصفين، فإني لن أفر». ابن أم مكتوم
وأخرج ابن منصور، عن أنه قال: «لقد رأيت أنس بن مالك بعد ذلك في بعض مشاهد المسلمين ومعه اللواء». ابن أم مكتوم
ويعلم من نفي المساواة في صدر الآية المستلزم للتفضيل المصرح به بعد بين المجاهد بالمال والنفس والقاعد نفيها بين المجاهد بأحدهما والقاعد، واحتمال أن يراد من الآية نفي المساواة بين القاعد عن الجهاد بالمال والمجاهد به، وبين القاعد عن الجهاد بالنفس والمجاهد بها بأن يكون المراد بالمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم المجاهدين فيه بأموالهم، والمجاهدين [ ص: 125 ] فيه بأنفسهم، وبالقاعدين - أيضا - قسمي القاعد، ويكون المراد نفي المساواة بين كل قسم من القاعد ومقابله بعيد جدا.
واحتج بها - كما قال ابن الغرس - من فضل الغنى على الفقر بناء على أنه سبحانه فضل المجاهد بماله على المجاهد بغير ماله، ولا شك أن الدرجة الزائدة من الفضل للمجاهد بماله إنما هي من جهة المال، واستدلوا بها أيضا على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديوان ونحوه.
وكان الله غفورا رحيما تذييل مقرر لما وعد سبحانه من قبل.