ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت أي: يحل به قبل أن يصل إلى المقصد ويحط رحال التسيار، بل وإن كان ذلك خارج بابه كما يشعر به إيثار الخروج من بيته على المهاجرة، وثم لا تأبى ذلك كما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى، وهو معطوف على فعل الشرط، وقرئ (يدركه) بالرفع، وخرجه - كما قال السمين - على أنه فعل مضارع مرفوع للتجرد من الناصب والجازم، والموت فاعله، والجملة خبر لمبتدأ محذوف أي: ثم هو يدركه الموت، وتكون الجملة الاسمية معطوفة على الفعلية الشرطية، وعلى ذلك حمل يونس قول ابن جني الأعشى:
[ ص: 128 ]
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا أو تنزلون فإنا معشر نزل
أي: أو أنتم تنزلون، وتكون الاسمية حينئذ - كما قال بعض المحققين -: في محل جزم، وإن لم يصح وقوعها شرطا؛ لأنهم يتسامحون في التابع، وإنما قدروا المبتدأ ليصح رفعه مع العطف على الشرط المضارع. وقال عصام الملة: ينبغي أن يعلم أنه على تقدير المبتدأ يجب جعل (من) موصولة؛ لأن الشرط لا يكون جملة اسمية، ويكون (يخرج) أيضا مرفوعا، ويرد عليه حينئذ أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ، فالأولى أن الرفع بناء على توهم رفع (يخرج) لأن المقام من مظان الموصول، ولا يخفى أنه خبط وغفلة عما ذكروا، وقيل: إن ضم الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركتها إلى الكاف كقوله:عجبت والدهر كثير عجبه من عنزي يسبني لم أضربه
وقرأ (يدركه) بالنصب، وخرجه غير واحد على أنه بإضمار (أن) نظير ما أنشده الحسن من قوله: سيبويه
سأترك منزلي لبني تميم وألحق بالحجاز فأستريحا
وذكر بعض المحققين أن النصب في الآية جوزه الكوفيون لما أن الفعل الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم عندهم إذا وقع بعد الواو والفاء كقوله:
ومن لا يقدم رجله مطمئنة فيثبتها في مستوى القاع يزلق
فقد وقع أجره على الله أي: وجب بمقتضى وعده وفضله، وهو جواب الشرط، وفي مقارنة هذا الشرط مع الشرط السابق الدلالة على أن المهاجر له إحدى الحسنيين إما أن يرغم أنف أعداء الله ويذلهم بسبب مفارقته لهم واتصاله بالخير والسعة، وإما أن يدركه الموت ويصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم.
وفي الآية ما لا يخفى من المبالغة في الترغيب، فقد قيل: كان مقتضى الظاهر (ومن يهاجر إلى الله ورسوله ويمت يثبه) إلا أنه اختير (ومن يخرج مهاجرا من بيته) على و(من يهاجر) لما أشرنا إليه آنفا، ووضع (يدركه الموت) موضع (يمت) إشعارا بمزيد الرضا من الله تعالى، وأن الموت كالهدية منه سبحانه له؛ لأنه سبب للوصول إلى النعيم المقيم الذي لا ينال إلا بالموت، وجيء بـ(ثم) بدل الواو تتميما لهذه الدقيقة، وأن مرتبة الخروج دون هذه المرتبة، وأقيم (فقد وقع أجره على الله) مقام (يثبه) لما أنه مؤذن باللزوم والثبوت، وأن الأجر عظيم، لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه؛ لأنه على الذات الأقدس المسمى بذلك الاسم الجامع.
وعن إن فائدة (ثم يدركه) بيان أن الأجر إنما يستقر إذا لم يحبط العمل الموت. الزمخشري:
واختلف فيمن نزلت، فأخرج عن ابن جرير، أنها نزلت في ابن جبير جندب بن ضمرة، وكان بلغه قوله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مسلميها، فقال لبنيه: احملوني فإني لست [ ص: 129 ] من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، وكان شيخا كبيرا، فمات بالتنعيم، ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك - صلى الله عليه وسلم - أبايعك على ما بايع عليه رسولك، ولما بلغ خبر موته الصحابة - رضي الله تعالى عنهم – قالوا: ليته مات بالمدينة، فنزلت.
وروى عن الشعبي، - رضي الله تعالى عنهما - أنها نزلت في ابن عباس أكتم بن صيفي لما أسلم ومات وهو مهاجر.
وأخرج من طريق ابن أبي حاتم، هشام بن عروة، عن أبيه أنها نزلت في الزبير خالد بن حزام، وقد كان هاجر إلى الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات.
وروي غير ذلك، وعلى العلات فالمراد عموم اللفظ لا خصوص السبب، وقد ذكر أيضا غير واحد أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم، وحج، وكسب حلال، وزيارة صديق، وصالح، ومات قبل الوصول إلى المقصد فحكمه كذلك.
وقد أخرج أبو يعلى، عن والبيهقي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبي هريرة «من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيا في سبيل الله تعالى فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة».
واحتج أهل المدينة بالآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة، والصحيح ثبوت الأجر الأخروي فقط وكان الله غفورا مبالغا في المغفرة، فيغفر له ما فرط منه في الذنوب، التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج رحيما مبالغا في الرحمة، فيرحمه سبحانه بإكمال ثواب هجرته ونيته.