[ ص: 107 ] هذا، ومن باب الإشارة في الآيات الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض أي سموات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم، ويقال : الروح سماء القلب لأن منها ينزل غيث الإلهام والقلب أرضها لأنه فيه ينبت زهر الحكمة ونور المعرفة وجعل الظلمات أي وأنشأ في عالم الجسم ظلمات المراتب التي هي حجب ظلمانية للذات المقدس، وأنشأ في عالم الأرواح نور العلم والادراك، ويقال : الظلمات الهواجس والخواطر الباطلة، والنور الإلهام، وقال بعضهم : الظلمات أعمال البدن والنور أحوال القلب ثم بعد ظهور ذلك الذين كفروا بربهم يعدلون غيره، ويثبتون معه سبحانه وتعالى من يساويه في الوجود، وهو الله الذي لا نظير له في سائر صفاته هو الذي خلقكم من طين وهو طين المادة الهيولانية، ثم قضى أجلا أي حدا معينا من الزمان إذا بلغه السالك إلى ربه سبحانه وتعالى فنى فيه - عز شأنه - وأجل مسمى عنده وهو البقاء بعد الفناء، وقيل الأجل الأول هو الذي يقتضيه الاستعداد طبعا بحسب الهوية وهو المسمى أجلا طبيعيا للشخص بالنظر إلى مزاجه الخاص وتركيبه المخصوص بلا اعتبار عارض من العوارض الزمانية، ونكر لأنه من أحكام القضاء السابق الذي هو أم الكتاب وهي كلية منزهة عن التشخصات إذ محلها الروح الأول المقدس، والأجل الثاني هو الأجل المقدر الزماني الذي يقع عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع وهو مثبت في كتاب النفس الفلكية التي هي لوح القدر ثم أنتم بعدما علمتم ذلك تمترون وتشكون في تصرفه فيكم كما يشاء وهو الله في السماوات وفي الأرض أي سواء ألوهيته بالنسبة إلى العالم العلوي والسفلي يعلم سركم في عالم الأرواح وهو عالم الغيب وجهركم في عالم الأجسام وهو عالم الشهادة ويعلم ما تكسبون فيهما من العلوم والحركات والسكنات وغيرها فيجازيكم بحسبها، وقيل : المعنى يعلم جولان أرواحكم في السماء لطلب معادن الأفراح وتقلب أشباحكم في الأرض لطلب الوسيلة إلى مشاهدته ويعلم ما تحصلونه بذلك، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الأنفسية والآفاقية إلا كانوا عنها معرضين لسوء اختيارهم وعمى أعينهم عن مشاهدة أنوار الله تعالى الساطعة على صفحات الوجود وقالوا لضعف يقينهم لولا أنزل عليه ملك فنراه لتزول شبهتنا ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر أي أمر هلاكهم لعدم قدرتهم على تحمل مشاهدته ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ليمكنهم مشاهدته قل لمن ما في السماوات والأرض أي ما في العالمين قل لله إيجادا وإفناء كتب على نفسه الرحمة
قال سيدي الشيخ الأكبر قدس الله سره : إن رحمة الله تعالى عامة وهي نعمة الامتنان التي تنال من غير استحقاق، وهي المراد في قوله تعالى : فبما رحمة من الله لنت لهم وإليها الإشارة بالرحمن في البسملة وخاصة وهي الواجبة المرادة بقوله تعالى : فسأكتبها للذين يتقون وإليها الإشارة بالرحيم فيها. ويشير كلامه قدس الله تعالى سره في الفتوحات إلى أن ما في الآية هو الرحمة الخاصة، ومقتضى السياق أنها الرحمة العامة
وذكر قدس الله تعالى سره في أثناء الكلام على الرحمة وقول الله عز شأنه يوم القيامة " شفعت الملائكة وشفعت النبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين أن رحمة الله تعالى سبقت غضبه " كما في الخبر فهي أمام الغضب فلا يزال غضب الله تعالى يجري في شأواه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد سبقته فتتناول منه العبد المغضوب عليه فتبسط عليه ويرجع الحكم لها فيه، والمدى الذي يقطعه الغضب ما بين الرحمن الرحيم الذي في البسملة وبين الرحمن الرحيم الذي بعد الحمد لله رب العالمين . فالحمد لله رب العالمين [ ص: 108 ] هو المدى وأوله وآخره ما قد علمت، وإنما كان ذلك عين المدى لأن فيه يظهر السراء والضراء، ولهذا كان فيه الحمد وهو الثناء ولم يقيد بسراء ولا ضراء فيعمهما، ويقول الشرع في حمد السراء : الحمد لله المنعم المتفضل، ويقول في حمد الضراء : الحمد لله على كل حال. فالحمد لله قد جاء في السراء والضراء فلهذا كان عين المدى، وما من أحد في الدار الآخرة إلا هو يحمد الله تعالى ويرجو رحمته ويخاف عذابه، واستمراه عليه فجعل الله تعالى عقيب الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم فالعالم بينهما بما هو عليه من محمود ومذموم، وهذا شبيه بما جاء في سورة ألم نشرح وهو تنبيه عجيب منه سبحانه وتعالى لعباده ليتقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة الله تعالى
وأنت إذا التفت أدنى التفات تعلم أنه ما من أثر من آثار البطش إلا وهو مطرز برحمة الله تعالى بل ما من سعد ونحس إلا وقد خرج من مطالع أفلاك الرحمة التي أفاضت شآبيبها على القوابل حسب القابليات؛ ومما يظهر سبق الرحمة أن كل شيء موجود مسبوق بتعلق الإرادة بإيجاده وإخراجه من حيز العدم الذي هو معدن كل نقص؛ ولا ريب في أن ذلك رحمة كما أنه لا ريب في سبقه، نعم تنقسم الرحمة في بعض الحيثيات إلى قسمين: رحمة محضة لا يشوبها شيء من النقمة كنعيم الجنة وهي الطالعة من بروج اسمه سبحانه الرحيم ولكونه صلى الله عليه وسلم يحب دخول أمته الجنة ويكره لهم النار سماه الحق عز اسمه الرحيم في قوله سبحانه وتعالى : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ، ورحمة قد يشوبها نقمة كتأديب الولد بالضرب رحمة به وكشرب الدواء المر البشع وهي المشرقة من مطالع آفاق اسمه عز اسمه الرحمن، ولعل هذه الرحمة العامة هي المرادة في قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ثم اعلم أن سبق الرحمة الغضب يقتضي ظاهرا سبق تجليات الجمال على تجليات الجلال لأن الرحمة من الجمال والغضب من الجلال
وذكر مولانا الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس سره أن الجلال أسبق من الجمال. فقد ورد في الحديث " " ولا أقرب من ثوب الرداء والإزار إلى الشخص. ثم قال : ولا يناقض هذا قوله جل شأنه : " العظمة إزاري والكبرياء ردائي " فإن الرحمة السابقة إنما هي بشرط العموم والعموم من الجلال. وادعي أن الصفة الواحدة الجمالية إذا استوفت كمالها في الظهور أو قاربت سميت جلالا لقوة ظهور سلطان الجمال فمفهوم الرحمة من الجمال وعمومها وانتهاؤها جلال، وأنت تعلم أنه إذا فسر السبق بالمعنى الذي نقله النووي عن العلماء سابقا وهو الكثرة والشمول فهو مما لا ريب في تحققه في الرحمة إذ في كل غضب رحمة وليس في كل رحمة غضب كما لا يخفى على من حقق النظر قد سبقت رحمتي غضبي
وبالجملة في رحمته سبحانه مطمع أي مطمع حتى أن إبليس يرجوها يوم القيامة على ما يدل عليه بعض الآثار. وأحظى الناس بها إن شاء الله تعالى هذه الأمة نسأل الله تعالى لنا ولكم الحظ الأوفر منها ليجمعنكم إلى يوم القيامة الصغرى أو الكبرى لا ريب فيه في نفس الأمر وإن لم يشعر به المحجوبون الذين خسروا أنفسهم بإهلاكها في الشهوات واللذات الفانية فحجبوا عن الحقائق الباقية النورانية واستبدلوا بها المحسوسات الفانية الظلمانية فهم لا يؤمنون لذلك، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة