ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا أصل معنى الفتنة على ما حققه من الفتن وهو إدخال الذهب النار لتعلم جودته من رداءته ثم استعمل في معان كالعذاب والاختبار والبلية والمصيبة والكفر والإثم والضلال [ ص: 123 ] والمعذرة، واختلف في المراد هنا فقيل : الشرك، واختار هذا القول الراغب ورواه عطاء عن الزجاج رضي الله تعالى عنهما، وكأن التعبير عن الشرك بالفتنة أنها ما تفتتن به ويعجبك وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به. والكلام حينئذ إما على حذف مضاف كما يقتضيه ظاهر كلام البعض، وإما على جعل عاقبة الشيء عينه ادعاء وهو أحلى مذاقا وأبعد مغزى. والحصر إضافي بالنسبة إلى جنس الأقوال أو ادعائي ابن عباس
، وقوله تعالى : والله ربنا ما كنا مشركين
32
- كناية عن التبري عن الشرك وانتفاء التدين به أي ثم لم يكن عاقبة شركهم شيئا إلا تبرئهم منه، ونص أن مثل ما في الآية أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في مهلكة تبرأ منه فيقال له : ما كان محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه. وليس ذلك من قبيل عتابك السيف ولا من تقدير المضاف، وإن صح ذلك فيه وهو معنى حسن لطيف لا يعرفه إلا من عرف كلام العرب، وقيل : المراد بها العذر واستعملت فيه لأنها على ما تقدم التخليص من الغش والعذر يخلص من الذنب فاستعيرت له الزجاج
وروي ذلك عن أيضا وأبي عبد الله ابن عباس وقتادة رضي الله تعالى عنهم، وقيل : الجواب بما هو كذب. ووجه الإطلاق أنه سبب الفتنة فتجوز بها عنه إطلاقا للمسبب على السبب، ويحتمل أن يكون هناك استعارة لأن الجواب مخلص لهم أيضا كالمعذرة، قيل : والحصر على هذين القولين حقيقي، والجملة القسمية على ظاهرها و (تكن) بالتاء الفوقانية ، و (فتنتهم) بالرفع قراءة ومحمد بن كعب ابن كثير وابن عامر وحفص عن وقرأ عاصم، حمزة (يكن) بالياء التحتانية و (فتنتهم) بالنصب، وكذا قرأ (ربنا) بالنصب على النداء أو المدح وقرئ في الشواذ (ربنا) بالرفع على أنه خبر مبتدإ محذوف وهو توطئة لنفي إشراكهم، وفائدته رفع توهم أن يكون نفي الإشراك بنفي الإلهية عنه تقدس وتعالى، وقرأ الباقون بالتاء من فوق ونصب (فتنتهم) أيضا، وخرجوا قراءة الأولين على أن فتنتهم اسم (تكن) ، وتأنيث الفعل إسناده إلى مؤنث (وأن قالوا) خبره. والكسائي
وقرأ حمزة على أن (أن قالوا) هو الاسم، ولم يؤنث الفعل لإسناده إلى مذكر، و (فتنتهم) هو الخبر والكسائي
وقراءة الباقين على نحو هذا خلا أن التأنيث فيها بناء على مذهب الكوفيين فإنهم يجيزون في سعة الكلام تأنيث اسم كان إذا كان مصدرا مذكرا وكان الخبر مؤنثا مقدما كقوله :
وقد خاب من كانت سريرته الغدر
ويستشهدون على ذلك بهذه القراءة وذهب البصريون إلى أن ذلك ضرورة، وقيل : إن التأنيث على معنى المقالة وهو من قبيل (جاءته كتابي) أي رسالتي، ولا يخفى أن هذا قليل في كلامهم، وقال ونقل بعينه عن أبي علي : إن ذلك من قبيل: من كانت أمك، ونوقش بما لا طائل فيه وزعم بعضهم أن القراءتين الأخيرتين أفصح من القراءة الأولى لأن فيها جعل الأعرف خبرا وغير الأعرف اسما، لأن (أن قالوا) يشبه المضمر، والمضمر أعرف المعارف وهو خلاف الشائع المعروف دونهما وفيه نظر إذ لا يلزم من مشابهة شيء لشيء في حكم مشابهته له في جميع الأحكام، والجملة على سائر القراءات عطف على الفعل المقدر العامل في (يوم نحشرهم) إلخ. على ما مرت الإشارة إليه وجعلها غير واحد عطفا على الجملة قبلها، و (ثم) إما على ظاهرها بناء على القول الأول وإما للتراخي في الرتبة بناء على القولين الأخيرين لأن معذرتهم أو جوابهم هذا أعظم من التوبيخ السابق الزمخشري
وأنت تعلم أنه لا ضرورة للعدول عن الظاهر لجواز أن يكون هناك تراخ في الزمان بناء على أن الموقف عظيم فيمكن أن يقال : إنهم لما عاينوا هول ذلك اليوم وتجلي الملك الجبار جل جلاله عليهم بصفة الجلال كما ينبئ [ ص: 124 ] عنه الجملة السابقة حاروا ودهشوا فلم يستطيعوا الجواب إلا بعد زمان، ومما ينبئ على دهشتهم وحيرتهم أنهم كذبوا وحلفوا في كلامهم هذا ولو لم يكونوا حيارى مدهوشين لما قالوا الذي قالوا لأن الحقائق تنكشف يوم القيامة فإذا اطلع أهلها عليها وعلى أنها لا تخفى عليه سبحانه، وأنه لا منفعة لهم في مثل ذلك استحال صدوره عنهم
وللغفلة عن بناء الأمر عن الدهشة والحيرة، منع الجبائي والقاضي ومن وافقهما جواز الكذب على أهل القيامة مستدلين بما ذكرنا وأجابوا عن الآية بأن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم موحدون متباعدون عن الشرك واعترضوا على أنفسهم بأنهم على هذا التقدير يكونون صادقين فيما أخبروا فلم قال سبحانه :