وقول أبي حيان أن الفخر إنما يحصل بكثرة إلخ غير مسلم على إطلاقه بل هو فيما يكثر وقوعه، وأما ما يندر فيفتخر بوقوعه نادرا لأن قرن الشجاع لو غلبه كثير لم يكن قرنا له لأن القرن بكسر القاف وسكون الراء المقاوم المساوي
وفي القاموس القرن كفؤك في الشجاعة أو أعم فلفظه يقتضي بحسب دقيق النظر أنه لا يغلبه إلا قليلا وإلا لم يكن قرنا، ويتناقض أول الكلام وآخره، وادعى الطيبي أن لفظ (قد) للتقليل وقد يراد به في بعض المواضع ضده وهو من باب استعارة أحد الضدين للآخر، والنكتة هنا تصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قومه وتكذيبهم يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا يعلم الله تعالى من إظهارك الشكوى إلا قليلا وأن يكون تهكما بالمكذبين وتوبيخا لهم
ونص بعضهم على أن (قد) هنا للتقليل على معنى أن ما هم فيه أقل معلوماته تعالى، وضمير (إنه) للشأن وهو اسم (إن) وخبرها الجملة المفسرة له والموصول فاعل يحزنك وعائده محذوف أي الذي يقوله وهو ما حكي عنهم من قولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين أو هو وما يعمه وغيره من هذيانهم وجملة (إنه) إلخ، سادة مسد مفعولي (يعلم)
وقرأ (ليحزنك) من أحزن المنقول من حزن اللازم، وقوله سبحانه : نافع: فإنهم لا يكذبونك تعليل لما يشعر به الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا بطريق التسلي بما يفيده من بلوغه صلى الله تعالى عليه وسلم في جلالة القدر ورفعة الشأن غاية ليس وراءها غاية حيث نفى تكذيبهم قاتلهم الله تعالى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله سبحانه وتعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله إيذانا بكمال القرب واضمحلال شئونه صلى الله تعالى عليه وسلم في شأن الله عز وجل، وفيه أيضا استعظام لجنايتهم منبئ عن عظم عقوبتهم، كأنه قيل : لا تعتد به وكله إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون
33
- أي ولكنهم بآياته تعالى يكذبون فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه، وقيل : إن كان المراد من الظلم مطلقه، فالوضع للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وديدنهم وأنه علة الجحود لأن التعليق بالمشتق يفيد علية المأخذ وإن أريد به الظلم المخصوص فهو عين الجحد وواقع به نحو: ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فيكون المبتدأ مشيرا إلى وجه بناء الخبر كقوله :
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
، وقيل : أن (أل) في الظالمين إن كانت موصولة واسم الفاعل بمعنى الحدوث أفاد الكلام سببية الجحد للظلم، وإن كانت حرف تعريف واسم الفاعل بمعنى الثبوت أفاد سببية الظلم للجحد لا يخفى ما فيه، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظاما لما قدموا عليه، وإيراد الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياته سبحانه من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كل أحد، وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود، وهو كالجحد نفي ما في القلب ثباته أو إثبات ما في القلب نفيه، والباء متعلق بـ (يجحدون) والجحد يتعدى بنفسه والباء، فيقال جحده حقه وبحقه وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام الجوهري والراغب ، وقيل: إنه إنما يتعدى بنفسه والباء [ ص: 136 ] ههنا لتضمينه معنى التكذيب، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور مراعاة لرءوس الآي أو للقصر، ونقل الطبرسي عن أبي علي أن الجار متعلق بـ (الظالمين) وفيه خفاء، وما ذكر من أن الفاء لتعليل ما يشعر به الكلام هو الذي قرره بعض المحققين، وقيل أنها تعليل لقوله سبحانه قد نعلم إلخ بناء على أن معناه لا تحزن كما يقال في مقام المنع والزجر : نعلم ما تفعل، فكأنه قيل : لا تحزن مما يقولون فإن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي، ويحتمل أن يكون المعنى إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم وأعظم، ولا يخفى أن هذا خلاف المتبادر، وقيل: معنى الآية فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم، وروي ذلك عن وغيره ويؤيده ما رواه قتادة أنه التقى السدي الأخنس بن شريق وأبو جهل فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد -صلى الله عليه وسلم - أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا أحد يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل: والله إن محمدا صلى الله عليه وسلم لصادق، وما كذب محمد عليه الصلاة والسلام قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكذا ما أخرجه عند الواحدي قال: كان مقاتل الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقا فأنزل الله تعالى الآية، وقيل : المعنى أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق، وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، ونسب هذا إلى وأيد بما أخرجه الكسائي، الترمذي وصححاه عن والحاكم كرم الله تعالى وجهه أن علي أبا جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت، وكذا أخرج عن الواحدي أبي ميسرة، واعترض الرضي هذا القول بأنه لا يجوز أن يصدقوه صلى الله عليه وسلم في نفسه ويكذبوا ما أتى به لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه، فكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره ويكون الذي أتى به فاسدا بل إن كان صادقا فالذي أتي به صحيح، وإن كان الذي أتى به فاسدا فلا بد أن يكون كاذبا فيه، وقال مولانا سنان: إن حاصل المعنى أنهم لا يكذبونك في نفس الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك وحاشاك نوع خلل فخيل إليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به ليس بحق، وقال الطيبي : مرادهم إنك لا تكذب لأنك الصادق الأمين ولكن ما جئت به سحر ويعلم من هذا الجواب عن اعتراض الرضي فتدبر، وقيل : معنى الآية أنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره، وقيل : المعنى لا يكذبك جميعهم وإن كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون في هذه الآية، وعلى هذا لا يكون ذكر الظالمين من وضع المظهر موضع المضمر، وقيل غير ذلك ولا يخفى ما الأليق بجزالة التنزيلوقرأ نافع والكسائي عن والأعمش (لا يكذبونك) من الإكذاب وهي قراءة أبي بكر: كرم الله تعالى وجهه، ورويت أيضا عن علي رضي الله تعالى عنه فقال الجمهور: كلاهما بمعنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل، وقيل : معنى أكذبته وجدته كاذبا كأحمدته بمعنى وجدته محمودا، ونقل جعفر الصادق أحمد بن يحيى عن أن الكسائي العرب تقول: كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه.