وجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض أي أقسموا بجهد أيمانهم أي أوكدها؛ وهو بفتح الجيم وضمها في الأصل بمعنى الطاقة والمشقة، وقيل : بالفتح للمشقة وبالضم الوسع، وقيل : ما يجهد الإنسان. والمعنى هنا -على ما قال - أنهم حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم الراغب لئن جاءتهم آية من مقترحاتهم أو من جنس الآيات، ورجحه بعض المحققين بأنه الأنسب بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعدون ما يشاهدونه من المعجزات القاهرة من جنس الآيات فاقترحوا غيرها ليؤمنن بها وما كان مرمى غرضهم إلا التحكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب المعجزة وعدم الاعتداد بما شاهدوا منه عليه الصلاة والسلام من البينات. والباء صلة الإيمان، والمراد من الإيمان بها التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم. وجعلها للسببية على معنى ليؤمنن بسببها خلاف الظاهر
قل إنما الآيات أي كلها فيدخل ما اقترحوه فيها دخولا أوليا عند الله أي أمرها في حكمه وقضائه خاصة يتصرف فيها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته استقلالا ولا اشتراكا بوجه من الوجوه حتى يمكنني أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء؛ وهذا كما ترى سد لباب الاقتراح
وقيل : إن المعنى إنما الآيات عند الله لا عندي فكيف أجيبكم إليها أو ءاتيكم بها أو المعنى هو القادر عليها لا أنا حتى ءاتيكم بها. واعترض ذلك شيخ الإسلام بعد أن اختار ما قدمناه بأنه لا مناسبة له بالمقام كيف لا وليس مقترحهم مجيئها بغير قدرة الله تعالى، فتدبر. روي أن قريشا اقترحوا بعض ءايات فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني فقالوا : نعم وأقسموا لئن فعلته لنؤمنن جميعا فسأل المسلمون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ينزلها طمعا في إيمانهم فهم عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت. وأخرج عن ابن جرير محمد القرظي قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى عليه السلام كان معه عصا يضرب بها الحجر، وأن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا : تحول لنا الصفا ذهبا قال : فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين فقام رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، فقال صلى الله عليه وسلم: أتركهم حتى يتوب تائبهم. فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى يجهلون
وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون
109
- كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان الحكمة فيما أشعر به الجواب السابق من عدم مجيء الآيات خوطب به المؤمنون -كما قال الفراء وغيره- إما خاصة بطريق التلوين لما كانوا راغبين في نزولها طمعا في إسلامهم، وإما معه عليه الصلاة و السلام [ ص: 254 ] بطريق التعميم لما روي مما يدل على رغبته عليه الصلاة والسلام في ذلك أيضا كالهم بالدعاء، وفيه بيان لأن أيمانهم فاجرة وإيمانهم في زوايا العدم وإن أجيبوا إلى ما سألوه
وجوز بعضهم دخوله تحت الأمر، ولا وجه له إلا أن يقدر قل للكافرين : إنما الآيات عند الله وللمؤمنين وما يشعركم إلخ وهو تكلف لا داعي إليه. وعن أن الخطاب للمشركين وهو داخل تحت الأمر وفيه التفات و (أنها) إلخ عنده إخبار ابتدائي كما يدل عليه ما رواه عنه مجاهد ابن أبي حاتم . و (ما) استفهامية إنكارية -على ما قاله غير واحد- "لا" نافية لما يلزم عليه من بقاء الفعل بلا فاعل؛ وجعله ضمير الله تعالى تكلف أو غير مستقيم إلا على بعد، واستشكل بأن المشركين لما اقترحوا آية وكان المؤمنون يتمنون نزولها طمعا في إسلامهم كان في ظنهم إيمانهم على تقدير النزول فإذا أريد الإنكار عليهم فالمناسب إنكار الإيمان لا عدمه؛ كأنهم قالوا : ربنا أنزل للمشركين آية فإنه لو نزلت يؤمنون، وحينئذ يقال في الإنكار : ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون وأبو الشيخ
ويتضح هذا بمثال وذلك أنه إذا قال لك القائل : أكرم فلانا فإنه يكافئك؛ وكنت تعلم منه عدم المكافأة فإنك إذا أنكرت على المشير بإكرامه قلت : وما يدريك أني إذا أكرمته يكافئني؟ فأنكرت عليه إثبات المكافأة وأنت تعلم نفيها فإن قال لك : لا تكرمه فإنه لا يكافئك وأنت تعلم منه المكافأة وأردت الإنكار على المشير بحرمانه قلت : وما يدريك أنه لا يكافئني؟ فأنكرت عليه عدم المكافأة وأنت تعلم ثبوتها
والآية كما لا يخفى من قبيل المثال فكان الظاهر حيث ظنوا إيمانهم ورغبوا فيه وعلم الله تعالى عدم وقوعه منهم ولو نزل عليهم الملائكة وكلمهم الموتى أن يقال وما يشعركم أنهم إذا جاءت يؤمنون. وأجاب عنه بعضهم بأن هذا الاستفهام في معنى النفي وهو إخبار عنهم بعدم العلم لا إنكار عليهم؛ والمعنى أن الآيات عند الله تعالى ينزلها بحسب المصلحة، وقد علم سبحانه أنهم لا يؤمنون ولا تنجع فيهم الآيات وأنتم لا تدرون ما في الواقع وفي علم الله تعالى وهو أنهم لا يؤمنون فلذلك تتوقعون إيمانهم، والحاصل أن الاستفهام للإنكار وله معنيان "لم" و"لا"؛ فإن كان بمعنى "لم" يقال: ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون بدون "لا" على معنى لم قلتم: أنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك، وإن كان بمعنى "لا" يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بإثبات "لا" على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون فلذا توقعتم إيمانهم ورغبتم في نزول آية لهم، وهذا الثاني هو المراد، ويرجع إلى إقامة عذر المؤمنين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه، وأجاب آخرون بأن "لا" زائدة كما في قوله تعالى : ما منعك ألا تسجد وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون فإنه أريد تسجد ويرجعون بدون "لا"، وعن أن "أن" بمعنى لعل كما في قولهم: ائت السوق أنك تشتري لحما، وقول الخليل امرئ القيس :
عرجوا على الطل المحيل لأننا نبكي الديار كما بكى ابن خذام،
وقول الآخر :هل أنتم عائجون بنا لأنا نرى العرصات أو أثر الخيام،
وقرأ ابن عامر (تؤمنون) بالفوقانية، والخطاب حينئذ في الآية للمشركين بلا خلاف. وقرئ (وما يشعركم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون) فمرجع الإنكار إقدام المشركين على الحلف المذكور مع جهلهم بحال قلوبهم عند مجيء ذلك وبكونها حينئذ كما هي الآن. وقرئ (وما يشعركم) بسكون خالص واختلاس. وضمير (بها) على سائر القراءات راجع للآية لا للآيات لأن عدم إيمانهم عند مجيء ما اقترحوه أبلغ في الذم كما أن استعمال "إذا" مع الماضي دون "أن" مع المستقبل لزيادة التشنيع عليهم. وزعم بعضهم أن عوده للآيات أولى لقربه مع ما فيه من زيادة المبالغة في بعدهم عن الإيمان وبلوغهم في العناد غاية الإمكان. وحمزة