وفي الخبر " " لا يزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وهم على ذلك أولئك الذين هدى الله فبهداهم وهو آداب الشريعة والطريقة والحقيقة (اقتده) أمر له صلى الله عليه وسلم أن يتصف بجميع ما تفرق فيهم من ذلك الهدى وكان ذلك -على ما قيل- في منازل الوسائط، ولما كحل عيون أسراره بكحل الربوبية جعله مستقلا بذاته مستقيما بحاله وأخرجه من حد الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ولذا أمره عليه الصلاة والسلام بإسقاط الوسائط كما يشير إليه قوله سبحانه: قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي مع قوله صلى الله عليه وسلم: " موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " وقال بعض العارفين: ليس في هذا توسيط الوسائط لأنه أمر بالاقتداء بهداهم لا بهم. ونظيره: لو كان أن اتبع ملة إبراهيم حيث لم يقل سبحانه أن اتبع إبراهيم وما قدروا الله حق قدره أي ما عرفوه حق معرفته إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء أي لم يظهر من علمه وكلامه سبحانه على أحد شيئا؛ وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم إمكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري، ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته إلا الإنسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد اثنين وهذا كتاب أنزلناه مبارك لما فيه من أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال بل منه تجلى الحق لخلقه لو يعلمون
مصدق الذي بين يديه من التوراة والإنجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه ولتنذر أم القرى وهي القلب ومن حولها من القوى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا كمن ادعى الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وزعم أنه بالله عز وجل وأنه من أهل الإرشاد وهو ليس كذلك أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء كمن سمى مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا وفيضا من الروح القدسي فتنبأ لذلك ، أو قال سأنزل مثل ما أنزل الله كمن تفرعن وادعى الألوهية ولو ترى إذ الظالمون وهم هؤلاء الأصناف الثلاثة في غمرات الموت الطبيعي والملائكة باسطو أيديهم بقبض أرواحهم [ ص: 257 ] كالمتقاضي الملظ يقولون أخرجوا أنفسكم تغليظا وتعنيفا عليهم اليوم تجزون عذاب الهون والصغار لوجود صفات نفوسكم وهيآتها المظلمة وتكاثف حجب أنانيتكم وتفرعنكم ولقد جئتمونا فرادى أي منفردين مجردين عن كل شيء بالاستغراق في عين جمع الذات كما خلقناكم أول مرة عند أخذ الميثاق
إن الله فالق الحب أي حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف والنوى أي نوى النفس بنور القلب عن الأخلاق والمكارم أو فالق حبة المحبة الأزلية في قلوب المحبين والصديقين، ونوى شجر أنوار الأزل في فؤاد العارفين فتثمر بالأعمال الزكية والمقامات الشريفة والحالات الرفيعة يخرج الحي من الميت أي العالم به من الجاهل ومخرج الميت من الحي أي الجاهل من العالم، أو يخرج حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها ومخرج ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه فالق الإصباح أي مظهر أنوار صفاته على صفحات آفاق مخلوقاته أو شاق ظلمة الإصباح بنور الإصباح؛ وذلك لأن بحر العدم كان مملوءا من الظلمة فشقه بأن أجرى فيه جدولا من نوره حتى بلغ السيل الزبى. وقال الإمام: فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد، وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد، وفالق ظلمة الجهالة بصباح الادراك، وفالق ظلمة العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى فسحة عالم الأفلاك، وفالق ظلمة الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات. وقال بعض العارفين: المعنى فالق ظلمة صفات النفس عن القلب بإصباح نور شمس الروح وإشراقه عليها، وجعل الليل أي ليل الحيرة في الذات البحت سكنا تسكن إليه أرواح العاشقين كما قال قائلهم :
زدني بفرط الحب فيك تحيرا وارحم حشا بلظى هواك تسعرا
أو جاعل ظلمة النفس سكن القلب يسكن إليها أحيانا للارتفاق والاسترواح أو سكنا تسكن فيه القوى البدنية وتستقر عن الاضطراب كما قيل والشمس أي شمس تجلي الصفات والقمر أي قمر تجلي الأفعال حسبانا أي على حساب الأحوال حيث يعتبر بهما أو شمس الروح وقمر القلب محسوبين في عداد الموجودات الباقية الشريفة معتدا بهما أو على حساب الأوقات والأحوال وهو الذي جعل لكم النجوم أي المرشدين أو نجوم الحواس لتهتدوا بها في ظلمات البر وهو علم الآداب والبحر وهو علم الحقائق أو المعنى لتهتدوا بها في ظلمات بر الأجساد إلى مصالح المعاش وبحر العلوم باكتسابها بها وهو الذي أنشأكم أي أظهركم من نفس واحدة وهي النفس الكلية فمستقر في أرض البدن حال الظهور ومستودع في عين جمع الذات وهو الذي أنزل من السماء ماء أي من سماء الروح ماء العلم فأخرجنا به نبات كل شيء أي كل صنف من الأخلاق والفضائل فأخرجنا منه أي النبات خضرا زينة النفس وبهجة لها نخرج منه أي الخضر حبا متراكبا أي أعمالا مترتبة شريفة ونيات صادقة يتقوى القلب بها ومن النخل أي نخل العقل من طلعها أي من ظهور تعلقها قنوان معارف وحقائق دانية قريبة التناول لظهورها بنور الروح كأنها بديهية وجنات من أعناب وهي أعناب الأحوال والأذواق، ومنها تعتصر سلافة المحبة وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ترى الدهر عبدا طائعا ولك الحكم والزيتون أي زيتون التفكر والرمان أي رمان الهمم الشريفة والعزائم النفسية مشتبها كما في أفراد نوع واحد وغير متشابه كنوعين وفردين منهما مثلا انظروا إلى ثمره إذا أثمر أي راعوه بالمراقبة عند السلوك وبدء الحال وينعه وهو كمال عند الوصول بالحضور وجعلوا لله شركاء الجن أي جن الوهم والخيال حيث أطاعوهم [ ص: 258 ] وانقادوا لهم وخلقهم وخرقوا وافتروا له بنين من العقول وبنات من النفوس يعتقدون أنها لتجردها مؤثرة مثله بغير علم منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا به جل شأنه سبحانه وتعالى عما يصفون من تقيده بما قيدوه به جل شأنه لا تدركه الأبصار قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الحادي والعشرين وأربعمائة : يعني من كل عين من أعين الوجوه وأعين القلوب فإن القلوب ما ترى إلا بالبصر وأعين الوجوه لا ترى إلا بالبصر فالبصر حيث كان به يقع الادراك فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ويسمى في الظاهر بصر العين، والعين في الظاهر محل البصر والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه فكما لا تدركه العيون بأبصارها لا تدركه البصائر بأعينها، وورد في الخبر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " إن الله تعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وأن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم " فاشتركنا في الطلب مع الملإ الأعلى واختلفنا في الكيفية فمنا من يطلبه بفكره والملأ الأعلى له العقل وماله الفكر، ومنا من يطلبه به وليس في الملإ الأعلى من يطلبه به لأن الكامل منا هو على الصورة الإلهية التي خلقه الله تعالى عليها؛ فلهذا يصح ممن هذه صفته أن يطلب الله تعالى به ومن طلبه به وصل إليه فإنه لم يصل إليه غيره، وأن الكامل منا له نافلة تزيد على فرائضه إذا تقرب العبد بها إلى ربه أحبه؛ فإذا أحبه كان سمعه وبصره، فإذا كان الحق بصر مثل هذا العبد رآه وأدركه ببصره لأن بصره الحق فما أدركه إلا به لا بنفسه، وما ثم ملك يتقرب إلى الله تعالى بنافلة بل هم في الفرائض وفرائضهم قد استغرقت أنفاسهم فلا نفل عندهم فليس لهم مقام ينتج أن يكون الحق بصرهم حتى يدركوه به فهم عبيد اضطرار ونحن عبيد اضطرار من فرائضنا وعبيد اختيار من نوافلنا، إلى آخر ما قال. وهو صريح في أن بعض الأبصار تدركه لكن من حيثية رفع الغيرية. وقال في الباب الرابع عشر وأربعمائة بعد أن أنشد :من رأى الحق كفاحا علنا إنما أبصره خلف حجاب وهو لا يعرفه
قد استوى الميت والحي في كونهم ما عندهم شي
مني فلا نور ولا ظلمة فيهم ولا ظل ولا في رؤيتهم لي معدومة