ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه [ ص: 319 ] مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين
قوله تعالى: فهزموهم بإذن الله في الهزيمة قولان: أحدهما: أنها ليست من فعلهم وإنما أضيفت إليهم مجازا. والثاني: أنهم لما ألجئوا إليها صاروا سببا لها ، فأضيفت إليهم لمكان الإلجاء. ويحتمل قوله: بإذن الله وجهين: أحدهما: بأمر الله لهم بقتالهم.
الثاني: بمعونة الله لهم على قتالهم. وقتل داود جالوت حكي أن جالوت خرج من صفوف عسكره يطلب البراز؟ فلم يخرج إليه أحد ، فنادى طالوت في عسكره: من قتل جالوت فله شطر ملكي وأزوجه ابنتي ، فجاء داود وقد أخذ ثلاثة أحجار ، وكان قصيرا يرعى الغنم ، وقد ألقى الله في نفسه أنه سيقتل جالوت ، فقال لطالوت: أنا أقتل جالوت ، فازدراه طالوت حين رآه ، وقال له: هل جربت نفسك بشيء؟ قال: نعم ، قال: بماذا؟ قال: وقع ذئب في غنمي فضربته ، ثم أخذت رأسه فقطعته في جسمه ، فقال طالوت: الذئب ضعيف ، فهل جربت نفسك في غيره؟ قال: نعم ، دخل الأسد في غنمي ، فضربته ثم أخذت بلحييه فشققتها ، أفترى هذا أشد من الأسد ، قال: لا ، وكان عند طالوت درع سابغة لا تستوي إلا على من يقتل جالوت ، فأخبره بها وألقاها عليه فاستوت ، وسار إلى جالوت فرماه بحجر فوقع بين عينيه وخرج من قفاه ، فأصاب جماعة من عسكره فقتلهم وانهزم القوم عن آخرهم ، وكانوا على ما حكاه تسعين ألفا. واختلفوا ، عكرمة داود عند قتله جالوت نبيا؟ ذهب بعضهم أنه كان نبيا ، لأن هذا الفعل الخارج عن العادة ، لا يكون إلا من نبي ، وقال هل كان لم يكن نبيا ، لأنه لا يجوز أن يولى من ليس بنبي على نبي. قال الحسن: وإنما كان [ ص: 320 ] ابن السائب:
راعيا فعلى هذا يكون ذلك من توطئة لنبوته من بعد. ثم إن طالوت ندم على ما بذله لداود من مشاطرته ملكه وتزويجه ابنته ، واختلفوا هل كان ندمه قبل تزويجه ومشاطرته ، أم بعد ، على قولين: أحدهما: أن طالوت وفى بشرطه ، وزوج داود بابنته ، وخلطه في ملكه بنفسه ثم حسده ، فندم ، وأراد قتله ، فعلمت بنته بأنه يريد قتل زوجها ، وكانت من أعقل النساء ، فنصبت له زق خمر بالمسك ، وألقت عليه ليلا ثياب داود ، فأقبل طالوت ، وقال لها: أين زوجك؟ فأشارت إلى الزق ، فضربه بالسيف ، فانفجر منه الخمر وسطع ريح المسك ، فقال: يرحمك الله يا داود طبت حيا وميتا ، ثم أدركته الندامة ، فجعل ينوح عليه ويبكي ، فلما نظرت الجارية إلى جزع أبيها ، أخبرته الخبر ، ففرح ، وقاسم داود على شطر ملكه ، وهذا قول ، فعلى هذا يكون الضحاك طالوت على طاعته حين موته ، لتوبته من معصيته. والقول الثاني: أنه ندم قبل تزويجه على شرطه وبذله ، وعرض داود للقتل ، وقال له: إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق أمثالهن ، وأنت رجل جريء ، فاجعل صداقها قتل ثلاثمائة من أعدائنا ، وكان يرجو بذلك أن يقتل ، فغزا داود وأسر ثلاثمائة ، فلم يجد طالوت بدا من تزويجه ، فزوجه بها ، وزاد ندامة فأراد قتله ، وكان يدس عليه حتى مات ، وهذا قول ، فعلى هذا مات وهب بن منبه طالوت على معصيته لأنه لم يتب من ذنبه. وروى ، عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ بن جبل (إن الملوك قد قطع الله أرحامهم فلا يتواصلون حبا للملك حتى إن الرجل منهم ليقتل الأب والابن والأخ والعم ، إلا أهل التقوى وقليل ما هم ، ولزوال جبل عن موضعه أهون من زوال ملك لم ينقض) . وآتاه الله الملك والحكمة يعني داود ، يريد بالملك السلطان وبالحكمة النبوة وكان ذلك عند موت طالوت بعد سبع سنين من قتل جالوت على ما حكاه [ ص: 321 ] ابن السائب.
ويحتمل وجها ثانيا: أن الملك الانقياد إلى طاعته ، والحكمة: العدل في سيرته ويكون ذلك بعد موت طالوت عند تفرده بأمور بني إسرائيل. وعلمه مما يشاء فيه وجهان: أحدهما: صنعة الدروع والتقدير في السرد. والثاني: كلام الطير وحكمة الزبور. ويحتمل ثالثا: أنه فعل الطاعات والأمر بها ، واجتناب المعاصي والنهي عنها ، فيكون على الوجه الأول مما يشاء داود ، وعلى الثاني: مما يشاء الله ، وعلى الثالث مما يشاء الله ويشاء داود. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض في الدفع قولان: أحدهما: أن الله يدفع الهلاك عن البر بالفاجر ، قاله كرم الله وجهه. والثاني: يدفع بالمجاهدين عن القاعدين قاله علي . وقوله تعالى: ابن عباس لفسدت الأرض فيه وجهان: أحدهما: لفسد أهل الأرض. والثاني: لعم الفساد في الأرض. وفي هذا الفساد وجهان: أحدهما: الكفر. والثاني: القتل.