قوله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل الآية: في قولان: أحدهما: أنه أخذ الرشا في الحكم ، قاله . والثاني: أنه على العموم من أخذه بكل وجه محرم. وإنما عبر عن الأخذ بالأكل لأن ما يأخذونه من هذه الأموال هي أثمان ما يأكلون ، وقد يطلق على أثمان المأكول اسم الأكل ، كما قال الشاعر: الحسن
ذر الآكلين الماء فما أرى ينالون خيرا بعد أكلهم الماء
أي ثمن الماء. ويصدون عن سبيل الله يحتمل وجهين: أحدهما: أنه منعهم من الحق في الحكم بقبول الرشا. والثاني: أنه منعهم أهل دينهم من الدخول في الإسلام بإدخال الشبهة عليهم. والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم وفي هذا الكنز المستحق عليه هذا الوعيد ثلاثة أقاويل: أحدها: أن ، قاله الكنز كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته ، سواء كان مدفونا أو غير مدفون ابن عمر والسدي والشافعي والثاني: أن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم ، أديت منه الزكاة أم لم تؤد ، [ ص: 358 ] قاله والطبري. رضي الله عنه فقد قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ، وما فوقها كنز. والثالث: أن الكنز ما فضل من المال عن الحاجة إليه ، روى علي بن أبي طالب عن عمرو بن مرة قال: لما نزل قوله تعالى: سالم بن أبي الجعد والذين يكنزون الذهب والفضة الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعلم لكم ذلك ، فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال: (لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه) عمر بن الخطاب: . وروى (تبا للذهب والفضة) قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال عن قتادة عن شهر بن حوشب أبي أمامة صدي بن عجلان والكنز في اللغة هو كل شيء مجموع بعضه إلى بعض سواء كان ظاهرا على الأرض أو مدفونا فيها ، ومنه كنز البر ، قال الشاعر: قال: مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كية) ثم مات آخر فوجد في مئزره ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كيتان).
لا در دري إن أطعمت نازلهم قرف الحتى وعندي البر مكنوز
الحتى: سويق المقل. يعني وعندي البر مجموع. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة فذكر جنسين ثم قال : ولا ينفقونها والهاء كناية ترجع إلى جنس واحد ، ولم يقل: ولا ينفقونهما لترجع الكناية إليهما. [ ص: 359 ] فعن ذلك جوابان: أحدهما: أن الكناية راجعة إلى الكنوز ، وتقديره: ولا ينفقون الكنوز في سبيل الله. والثاني: أنه قال ذلك اكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر لدلالة الكلام على اشتراكهما فيه ، كما قال تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما [الجمعة: 11] ولم يقل إليهما ، وكقول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنونا
ولم يقل يعاصيا. ثم إن الله تعالى غلظ حال الوعيد بما ذكره بعد هذا من قوله: يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون وإنما غلظ بهذا الوعيد لما في طباع النفوس من الشح بالأموال ليسهل لهم تغليظ الوعيد إخراجها في الحقوق.