يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون
وروي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاري قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت "مواقيت": معالم يوقت بها الناس [ ص: 394 ] مزارعهم، ومتاجرهم ومحال ديونهم، وصومهم، وفطرهم، وعدد نسائهم، وأيام حيضهن، ومدد حملهن، وغير ذلك، ومعالم للحج يعرف بها وقته.
كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا، ولا دارا ولا فسطاطا من باب، فإذا كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما يصعد فيه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء، فقيل لهم: وليس البر : بتحرجكم من دخول الباب ولكن البر : بر من اتقى : ما حرم الله.
فإن قلت: ما وجه اتصاله بما قبله؟ قلت: كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها: معلوم أن كل ما يفعله الله - عز وجل - لا يكون إلا حكمة بالغة ومصلحة لعباده، فدعوا السؤال عنه، وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برا، ويجوز أن يجري ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج; لأنه كان [ ص: 395 ] من أفعالهم في الحج، ويحتمل أن يكون هذا تمثيلا لتعكيسهم في سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره، والمعنى: ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه، ولم يجسر على مثله، ثم قال: وأتوا البيوت من أبوابها : أي: وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا، والمراد: وجوب توطين النفوس، وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب، من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه; لما في السؤال من الاتهام بمقارفة الشك، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [الأنبياء: 21].