قرأ عبد الله : (آلوا من نسائهم)، وقرأ : (يقسمون من نسائهم). ابن عباس
فإن قلت: كيف عدي بمن، وهو معدى بعلى؟ قلت: قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين، ويجوز أن يراد لهم: من نسائهم تربص أربعة أشهر كقوله: لي منك كذا.
والإيلاء من المرأة أن يقول: والله لا أقربك أربعة [ ص: 438 ] أشهر فصاعدا على التقييد بالأشهر، أو لا أقربك على الإطلاق، ولا يكون في ما دون أربعة أشهر، إلا ما يحكى عن ، وحكم ذلك: أنه إذا فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكنه أو بالقول إن عجز صح الفيء، وحنث القادر، ولزمته كفارة اليمين، ولا كفارة على العاجز، وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة عند إبراهيم النخعي ، وعند أبي حنيفة : لا يصح الشافعي إلا في أكثر من أربعة أشهر ثم يوقف المولي، فإما أن يفيء وإما أن يطلق، وإن أبى طلق عليه الإيلاء الحاكم ، ومعنى قوله: "فإن فاءوا": فإن فاءوا في الأشهر، بدليل قراءة عبد الله : (فإن فاءوا فيهن) فإن الله غفور رحيم : يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء وهو الغالب، وإن كان يجوز أن يكون على رضا منهن إشفاقا منهن على الولد من الغيل، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة.
وإن عزموا الطلاق : فتربصوا إلى مضي المدة، فإن الله سميع عليم : وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة، وعلى قول -رحمه الله- معناه الشافعي فإن فاءوا وإن عزموا بعد مضي المدة.
فإن قلت: كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدة التربص؟ قلت: موقع صحيح; لأن قوله: فإن فاءوا ، وإن عزموا : تفصيل لقوله: للذين يؤلون من نسائهم والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر، فإن أحمدتكم أقمت عندكم [ ص: 439 ] إلى آخره، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول.
فإن قلت: ما تقول في قوله فإن الله سميع عليم وعزمهم الطلاق بما يعلم ولا يسمع؟ قلت: الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والضرار لا يخلو من مقاولة ودمدمة، ولا بد له من أن يحدث نفسه ويناجيها بذلك، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله كما يسمع وسوسة الشيطان.
"والمطلقات": أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء.
فإن قلت: كيف جازت إرادتهن خاصة، واللفظ يقتضي [ ص: 440 ] العموم؟ قلت: بل اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك.
فإن قلت: فما معنى الإخبار عنهن بالتربص؟ قلت: هو خبر في معنى الأمر، وأصل الكلام: وليتربص المطلقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص، فهو يخبر عنه موجودا، ونحوه قولهم في الدعاء: رحمك الله، أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها، وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضا فضل تأكيد، ولو قيل: ويتربص المطلقات لم يكن بتلك الوكادة.
فإن قلت: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء، كما قيل: تربص أربعة أشهر وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث; لأن فيه ما يستنكف منه فيحملهن على أن يتربصن، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص.
والقروء: جمع قرء أو قرء، وهو الحيض، بدليل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "دعي الصلاة أيام أقرائك" وقوله: "طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان" ولم يقل طهران، وقوله تعالى: واللائي يئسن من المحيض [ ص: 441 ] من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر [الطلاق: 4] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار؛ ولأن الغرض الأصيل في العدة استبراء الرحم، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر، ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة.
ويقال: أقرأت المرأة إذا حاضت، وامرأة مقرئ، وقال : دفع فلان جاريته إلى فلانة تقرئها، أي: تمسكها عندها حتى تحيض للاستبراء. أبو عمرو بن العلاء
فإن قلت: فما تقول في قوله تعالى: فطلقوهن لعدتهن [الطلاق: 1]، والطلاق الشرعي إنما هو في الطهر؟ قلت: معناه مستقبلات لعدتهن، كما تقول: لقيته لثلاث بقين من الشهر، تريد مستقبلا لثلاث، وعدتهن الحيض الثلاث.
فإن قلت: فما تقول في قول الأعشى [من الطويل]:
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
قلت: أراد: لما ضاع فيها من عدة نسائك؛ لشهرة القروء عندهم في الاعتداد بهن، [ ص: 442 ] أي: من مدة طويلة كالمدة التي تعتد فيها النساء، استطال مدة غيبته عن أهله كل عام لاقتحامه في الحروب والغارات، وأنه تمر على نسائه مدة كمدة العدة ضائعة لا يضاجعن فيها، أو أراد من أوقات نسائك، فإن القرء والقارئ جاء في معنى الوقت، ولم يرد لا حيضا ولا طهرا.
فإن قلت: فعلام انتصب ثلاثة قروء ؟ قلت: على أنه مفعول به كقولك: المحتكر يتربص الغلاء، أي: يتربصن مضي ثلاثة قروء، أو على أنه ظرف، أي: يتربصن مدة ثلاثة قروء.
فإن قلت: لم جاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء؟ قلت: يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية، ألا ترى إلى قوله: "بأنفسهن" وما هي إلا نفوس كثيرة، ولعل القروء كانت أكثر استعمالا في جمع قرء من الأقراء، فأوثر عليه تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة المهمل، فيكون مثل قولهم: ثلاثة شسوع، وقرأ : (ثلاثة قرو) بغير همزة. الزهري
ما خلق الله في أرحامهن : من الولد أو من دم الحيض، وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض: قد طهرت؛ استعجالا للطلاق، ويجوز أن يراد: اللاتي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه، إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر : تعظيم لفعلهن، وأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم، والبعولة: جمع بعل، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كما في الحزونة والسهولة، ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك: بعل حسن البعولة، يعني: وأهل بعولتهن أحق بردهن : برجعتهن، وفي قراءة (بردتهن) أبي: في ذلك في مدة ذلك التربص.
فإن قلت: كيف جعلوا أحق بالرجعة، كأن للنساء حقا فيها؟ قلت: المعنى أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها، إلا أن لها حقا في الرجعة إن أرادوا : بالرجعة "إصلاحا": لما بينهم وبينهن، وإحسانا إليهن ولم يريدوا مضارتهن، ولهن مثل الذي عليهن : ويجب لهن من الحق على الرجال مثل الذي يجب لهم عليهن "بالمعروف": بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهن ولا يكلفونهن ما ليس لهم، ولا يعنف أحد الزوجين صاحبه، والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة، لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال "درجة": زيادة في الحق وفضيلة، قيل: المرأة تنال من اللذة ما ينال الرجل، وله الفضيلة بقيامه عليها وإنفاقه في مصالحها.