أي : واذكرهما ، وإذ : بدل منهما ، والنفش : الانتشار بالليل ، وجمع الضمير ؛ لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما ، وقرئ : "لحكمهما " ، والضمير في "ففهمناها " : للحكومة أو الفتوى ، وقرئ : "فأفهمناها " : حكم داود بالغنم لصاحب الحرث ، فقال سليمان -عليه السلام- وهو ابن إحدى عشرة سنة : غير هذا أرفق بالفريقين ، فعزم عليه ليحكمن ، فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحارث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها ، والحرث إلى أرباب الشاء يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسد ، ثم يترادان ، فقال : القضاء ما قضيت ، وأمضى الحكم بذلك .
فإن قلت : أحكما بوحي أم باجتهاد ؟
قلت : حكما جميعا بالوحي ، إلا أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان ، وقيل : اجتهدا جميعا ، فجاء اجتهاد سليمان -عليه السلام- أشبه بالصواب .
فإن قلت : ما وجه كل واحدة من الحكومتين ؟
قلت : أما وجه حكومة داود -عليه السلام- فلأن الضرر لما وقع بالغنم ، سلمت بجنايتها إلى المجني عليه ، كما قال -رضي الله عنه- في أبو حنيفة : يدفعه المولى بذلك أو يفديه ، وعند العبد إذ جنى على [ ص: 158 ] النفس -رضي الله عنه - : يبيعه في ذلك أو يفديه ، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحارث ، ووجه حكومة الشافعي سليمان -عليه السلام - : أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث ، من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم ، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحارث حتى يزول الضرر والنقصان ؛ مثاله ما قال أصحاب فيمن غصب عبدا فأبق من يده : أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد ، فإذا ظهر ترادا . الشافعي
فإن قلت : فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ، ما حكمها ؟
قلت : وأصحابه -رضي الله عنهم- لا يرون فيه ضمانا بالليل أو بالنهار ؛ إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد ، أبو حنيفة -رضي الله عنه- يوجب الضمان بالليل ، وفي قوله : والشافعي ففهمناها سليمان : دليل على أن الأصوب كان مع سليمان -عليه السلام- وفي قوله : وكلا آتينا حكما وعلما : دليل على أنهما جميعا كانا على الصواب ، "يسبحن " : حال بمعنى : مسبحات ، أو استئناف ، كأن قائلا قال : كيف سخرهن ؟ فقال : يسبحن ، "والطير " : إما معطوف على الجبال ، أو مفعول معه .
فإن قلت : لم قدمت الجبال على الطير ؟
قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ؛ لأنها جماد والطير حيوان ، إلا أنه غير ناطق ، روي أنه كان يمر بالجبال مسبحا وهي تجاوبه ، وقيل : كانت تسير معه حيث سار .
فإن قلت : كيف تنطق الجبال وتسبح ؟
قلت : بأن يخلق الله فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى ، وجواب آخر : وهو أن يسبح من رآها تسير بتسيير الله ، فلما حملت على التسبيح وصفت به ، وكنا فاعلين أي : قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم ، وقيل : وكنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك .
اللبوس : اللباس ، قال [من الرجز ] :
[ ص: 159 ]
البس لكل حالة لبوسها
والمراد : الدرع ؛ قال : كانت صفائح فأول من سردها وحلقها قتادة داود ، فجمعت الخفة والتحصين ، "لتحصنكم " : قرئ بالنون والياء والتاء ، وتخفيف الصاد وتشديدها ؛ فالنون : لله -عز وجل- والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع ، والياء : لداود أو للبوس .