روي : أن صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كانت الخمر مباحة ، فأكلوا وشربوا ، فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم ليصلي بهم ، فقرأ : أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، فنزلت ، فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون . ثم نزل تحريمها ، ومعنى : عبد الرحمن بن عوف لا تقربوا [ ص: 82 ] الصلاة : لا تغشوها ولا تقوموا إليها واجتنبوها . كقوله : ولا تقربوا الزنا [الإسراء : 32] ولا تقربوا الفواحش [الأنعام : 151] وقيل : معناه : ولا تقربوا مواضعها وهي المساجد ، لقوله عليه الصلاة والسلام : وقيل : هو سكر النعاس وغلبة النوم ، كقوله [من الوافر] : "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم"
يرين النوم فيهم بسكر سناتهم كل الريون
وقرئ : "سكارى" ، بفتح السين ، "وسكرى" ، على أن يكون جمعا ، نحو : هلكى ، وجوعى ، لأن السكر علة تلحق العقل . أو مفردا بمعنى : وأنتم جماعة سكرى ، كقولك : امرأة سكرى ، وسكرى بضم السين كحبلى . على أن تكون صفة للجماعة ، وحكى [ ص: 83 ] جناح بن حبيش : كسلى وكسلى ، بالفتح والضم ولا جنبا : عطف على قوله : وأنتم سكارى لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال ، كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا ، والجنب : يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب إلا عابري سبيل : استثناء من عامة أحوال المخاطبين ، وانتصابه على الحال . فإن قلت : كيف جمع بين هذه الحال والحال التي قبلها؟ قلت : كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة ، إلا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها ، وهي حال السفر ، وعبور السبيل عبارة عنه ، ويجوز أن لا يكون حالا ولكن صفة ، لقوله : "جنبا" أي : ولا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل ، أي : جنبا مقيمين غير معذورين ، فإن قلت : كيف تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر؟ قلت : أريد بالجنب : الذين لم يغتسلوا كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حتى تغتسلوا ، إلا أن تكونوا مسافرين ، وقال من فسر الصلاة بالمسجد : معناه : لا تقربوا المسجد جنبا إلا مجتازين فيه ، إذا كان الطريق فيه إلى الماء ، أو كان الماء فيه أو احتلمتم فيه ، وقيل : إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فتصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا في المسجد ، فرخص لهم ، وروي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمر فيه وهو جنب إلا - رضي الله عنه لأن بيته كان في المسجد لعلي فإن قلت : [ ص: 84 ] أدخل في حكم الشرط أربعة : وهم المرضى ، والمسافرون ، والمحدثون ، وأهل الجنابة فيمن تعلق الجزاء الذي هو منهم . قلت : الظاهر أنه تعلق بهم جميعا وأن المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتيمموا ، وكذلك السفر إذا عدموه لبعده ، والمحدثون وأهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض الأسباب ، وقال الأمر بالتيمم عند عدم الماء : الصعيد وجه الأرض ، ترابا كان أو غيره ، وإن كان صخرا لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره ، وهو مذهب الزجاج - رحمة الله عليه - . فإن قلت : فما يصنع بقوله تعالى في سورة المائدة : أبي حنيفة فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه [المائدة : 6] أي : بعضه ، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلت : قالوا : إن "من" لابتداء الغاية . فإن قلت : قولهم : إنها لابتداء الغاية قول [ ص: 85 ] متعسف ، ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل : مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب ، إلا معنى التبعيض . قلت : هو كما تقول ، والإذعان للحق أحق من المراء إن الله كان عفوا غفورا : كناية عن . لأن من كانت عادته أن يعفو عن الخطائين ويغفر لهم ، آثر أن يكون ميسرا غير معسر . فإن قلت : كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين ، وبين المحدثين والمجنبين ، والمرض والسفر سببان من الترخيص والتيسير ، والحدث سبب لوجوب الوضوء ، والجنابة سبب لوجوب الغسل؟ قلت : أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهر وهم عادمون الماء في التيمم بالتراب ، فخص أول من بينهم مرضاهم وسفرهم ، لأنهم متقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم بكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة ، ثم عم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استقاء أو إرهاق في مكان لا ماء فيه وغير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض والسفر ، وقرئ : "من غيط" ، قيل هو تخفيف غيط ، كهين في هين ، والغيط بمعنى الغائط . أسباب الرخصة