يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا
فآمنوا خيرا لكم : وكذلك انتهوا خيرا لكم : انتصابه بمضمر ، وذلك أنه لما بعثهم على الإيمان وعلى علم أنه يحملهم على أمر فقال : الانتهاء عن التثليث خيرا لكم أي : اقصدوا ، أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث ، وهو الإيمان والتوحيد لا تغلوا في دينكم غلت اليهود في حط المسيح عن منزلته ، حيث جعلته مولودا لغير رشدة ، وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه إلها ولا تقولوا على الله إلا الحق وهو تنزيهه عن الشريك والولد ، وقرأ "إنما المسيح" بوزن السكيت ، وقيل : جعفر بن محمد لعيسى "كلمه الله" "وكلمة منه" لأنه وجد بكلمته وأمره لا غير ، من [ ص: 182 ] غير واسطة أب ولا نطفة ، وقيل : له : روح الله ، وروح منه لذلك ، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح ، كالنطفة المنفصلة من الأب الحي وإنما اخترع اختراعا من عند الله وقدرته خالصة ، ومعنى ألقاها إلى مريم أوصلها إليها وحصلها فيها ثلاثة خبر مبتدأ محذوف ، فإن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون : هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم ، أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، وأنهم يريدون بأقنوم الأب : الذات ، وبأقنوم الابن : العلم ، وبأقنوم روح القدس : الحياة ، فتقديره الله ثلاثة; وإلا فتقديره : الآلهة ثلاثة ، والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة ، وأن المسيح ولد الله من مريم . ألا ترى إلى قوله : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله [المائدة : 116] وقلت للنصارى المسيح ابن الله [التوبة : 30] والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون : في المسيح لاهوتية وناسوتية من جهة الأب والأم ، ويدل عليه قوله : إنما المسيح عيسى ابن مريم فأثبت أنه ولد لمريم اتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتها ، وأن اتصاله بالله تعالى من حيث إنه رسوله ، وأنه موجود بأمره وابتداعه جسدا حيا من غير أب ، فنفى أن يتصل به اتصال الأبناء بالآباء ، وقوله : سبحانه أن يكون له ولد وحكاية الله أوثق من حكاية غيره ، ومعنى : سبحانه أن يكون له ولد سبحه تسبيحا من أن يكون له ولد ، وقرأ : "إن يكون" ، بكسر الهمزة ورفع النون : أي : سبحانه ما يكون له ولد . على أن الكلام جملتان الحسن له ما في السماوات وما في الأرض : بيان لتنزهه عما نسب إليه ، يعني أن كل ما فيهما خلقه وملكه ، فكيف يكون بعض ملكه جزأ منه ، على أن الجزء إنما يصح في الأجسام وهو متعال عن صفات الأجسام والأعراض وكفى بالله وكيلا يكل إليه الخلق كلهم أمورهم ، فهو الغني عنهم وهم الفقراء إليه .