قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين
لما عصوه وتمردوا عليه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر ولم يبق معه مطيع موافق يثق له إلا هارون قال رب إني لا أملك : لنصرة دينك إلا نفسي وأخي : وهذا من البث والحزن والشكوى إلى الله والحسرة ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة ونحوه قول يعقوب - عليه السلام - إنما أشكو بثي وحزني إلى الله [يوسف : 86] ، وعن - رضي الله عنه - أنه كان يدعو الناس على منبر علي الكوفة إلى قتال البغاة ، فما أجابه إلا رجلان فتنفس الصعداء ، ودعا لهما وقال : أين تقعان مما أريد؟ وذكر في إعراب "أخي" وجوه : أن يكون منصوبا عطفا على نفسي أو على الضمير في "إني" بمعنى : ولا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه ، ومرفوعا عطفا على محل "إن" واسمها . كأنه قيل : أنا لا أملك إلا نفسي ، وهارون كذلك لا يملك إلا نفسه أو على الضمير في "لا أملك" وجاز للفصل ، ومجرورا عطفا على الضمير في "نفسي" ، [ ص: 223 ] وهو ضعيف لقبح العطف على ضمير المجرور إلا بتكرير الجار . فإن قلت : أما كان معه الرجلان المذكوران؟ قلت : كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ولم يطمئن إلى ثباتهما ، لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه وتلونهم وقسوة قلوبهم ، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره ، ويجوز أن يقول ذلك لفرط ضجره عندما سمع منهم تقليلا لمن يوافقه ، ويجوز أن يريد : ومن يؤاخيني على ديني فافرق : فافصل ، "بيننا" وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق ، وتحكم عليهم بما يستحقون ، وهو في معنى الدعاء عليهم ، ولذلك وصل به قوله : فإنها محرمة عليهم : على وجه التسبيب ، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله : ونجني من القوم الظالمين [القصص : 21] فإنها فإن الأرض المقدسة محرمة عليهم لا يدخلونها ، ولا يملكونها ، فإن قلت : كيف يوفق بين هذا وبين قوله : التي كتب الله لكم [المائدة : 21]؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما : أن يراد كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل : فإنها محرمة عليهم ، والثاني : أن يراد فإنها محرمة عليهم أربعين سنة ، فإذا مضت الأربعون كان من كتب ، فقد روى أن موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتح أريحاء وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض صلوات الله عليه ، وقيل : لما مات موسى بعث يوشع نبيا ، فأخبرهم بأنه نبي الله ، وأن الله أمره بقتال الجبابرة ، فصدقوه وبايعوه وسار بهم إلى أريحاء وقتل الجبارين وأخرجهم ، وصار الشام كله لبني إسرائيل ، وقيل : لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال : إنا لن ندخلها وهلكوا في التيه ونشأت نواشئ من ذرياتهم فقاتلوا الجبارين ودخلوها والعامل في الظرف إما "محرمة" وإما "يتيهون" ومعنى يتيهون في الأرض : يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقا ، والتيه : المفازة التي يتاه فيها . روي أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين ، حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، وكان الغمام يظللهم من حر الشمس ، ويطلع لهم عمود من نور بالليل يضيء لهم ، وينزل عليهم المن والسلوى ، ولا تطول شعورهم ، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله . فإن قلت : فلم كان ينعم عليهم بتظليل الغمام وغيره ، وهم معاقبون؟ قلت : كما ينزل بعض النوازل على العصاة عركا لهم ، [ ص: 224 ] وعليهم مع ذلك النعمة متظاهرة ، ومثل ذلك مثل الوالد المشفق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولا يقطع عنه معروفه وإحسانه . فإن قلت : هل كان معهم في التيه موسى وهارون عليهما السلام؟ قلت : اختلف في ذلك ، فقيل لم يكونا معهم لأنه كان عقابا ، وقد طلب موسى إلى ربه أن يفرق بينهما وبينهم ، وقيل : كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحا لهما وسلامة ، ولا عقوبة ، كالنار لإبراهيم ، وملائكة العذاب ، وروي أن هارون مات في التيه ، ومات موسى بعده فيه بسنة ، ودخل يوشع أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر ، ومات النقباء في التيه بغتة ، إلا كالب ويوشع فلا تأس : فلا تحزن عليهم لأنه ندم على الدعاء عليهم ، فقيل : إنهم أحقاء لفسقهم بالعذاب ، فلا تحزن ولا تندم .