من نفس واحدة : وهي نفس آدم ، عليه السلام وجعل منها زوجها : وهي حواء ، خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه ، أو من جنسها ; كقوله : " جعل لكم من أنفسكم أزواجا [الشورى : 11] . ليسكن إليها : ليطمئن إليها ، ويميل ولا ينفر ; لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس ، وإذا كانت بعضا منه ، كان السكون والمحبة أبلغ ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ، ويحبه محبة نفسه ، لكونه بضعة منه .
وقال : "ليسكن" : فذكر بعدما أنث في قوله : واحدة منها زوجها ، ذهابا إلى معنى النفس ; ليبين أن المراد بها آدم ، ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها ، فكان [ ص: 541 ] التذكير أحسن طباقا للمعنى ، والتغشي : كناية عن الجماع ، وكذلك الغشيان والإتيان حملت حملا خفيفا : خف عليها ، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى ، ولم تستثقله كما يستثقلنه ، وقد تسمع بعضهن تقول في ولدها : ما كان أخفه على كبدي حين حملته فمرت به : فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ، ولا إزلاق ، وقيل : حملت حملا خفيفا يعني : النطفة : فمرت به : فقامت به وقعدت ، وقرأ - رضي الله عنه - : "فاستمرت به" ، وقرأ ابن عباس "فمرت به" ، بالتخفيف ، وقرأ غيره : "فمارت به" ، من المرية ; كقوله : يحيى بن يعمر ، أفتمارونه [النجم : 12] وأفتمرونه . ومعناه : فوقع في نفسها ظن الحمل ، فارتابت به فلما أثقلت حان وقت ثقل حملها ; كقولك : أقربت ، وقرئ "أثقلت" ، على البناء للمفعول : أي : أثقلها الحمل "دعوا الله ربهما" دعا آدم وحواء ربهما ، ومالك أمرهما الذي هو الحقيقي بأن يدعى ويلتجأ إليه ، فقالا : لئن آتيتنا : لئن وهبت لنا . "صالحا" : ولدا سويا قد صلح بدنه وبرئ ، وقيل : ولدا ذكرا ; لأن الذكورة من الصلاح والجودة ، والضمير في "ءاتيتنا" ، و "لنكونن" : لهما ، ولكل من يتناسل من ذريتهما فلما آتاهما : ما طلباه من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء أي : جعل أولادهما له شركاء ، على حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، وكذلك : فيما آتاهما أي : آتى أولادهما ; وقد دل على ذلك بقوله : فتعالى الله عما يشركون ; حيث جمع الضمير ، وآدم وحواء بريئان من الشرك ، ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله : تسميتهم أولادهم بعبد العزى ، وعبد مناة ، [ ص: 542 ] وعبد شمس ، وما أشبه ذلك ، مكان عبد الله ، وعبد الرحمن ، وعبد الرحيم ، ووجه آخر ، وهو : أن يكون الخطاب لقريش ، الذين كانوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم آل قصي ; ألا ترى إلى قوله في قصة أم معبد [من الطويل] :
فيا لقصي ما زوى الله عنكم به من فخار لا يبارى وسؤدد
[ ص: 543 ] ويراد : هو الذي خلقكم من نفس قصي ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ; ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما ; حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد قصي ، وعبد الدار ، وجعل الضمير في : "يشركون" لهما ، ولأعقابهما ، الذين اقتدوا بهما في الشرك ، وهذا تفسير حسن لا إشكال فيه ، وقرئ : "شركا" ، أي : ذوي شرك وهم الشركاء ، أو أحدثا لله شركا في الولد .