إنما يستأذنك : يعني: المنافقين، وكانوا تسعة وثلاثين رجلا، يترددون : عبارة عن التحير، لأن التردد ديدن المتحير، كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر، وقرئ: "عده"، بمعنى: "عدته"; فعل بالعدة ما فعل بالعدة من قال [الطويل]:
وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
من حذف تاء التأنيث، وتعويض المضاف إليه منها، وقرئ: "عدة" بكسر العين بغير إضافة، وعده بإضافة .
فإن قلت: كيف موقع حرف الاستدراك ؟
قلت: لما كان قوله: ولو أرادوا الخروج : معطيا معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو، قيل: ولكن كره الله انبعاثهم ، كأنه قيل: ما خرجوا، ولكن تثبطوا عن الخروج; لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إلي زيد، ولكن أساء إلي، فثبطهم : [ ص: 50 ] فكسلهم، وخذلهم، وضعف رغبتهم في الانبعاث ، وقيل اقعدوا : جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمرا بالقعود، وقيل: هو قول الشيطان بالوسوسة، وقيل: هو قولهم لأنفسهم . وقيل: هو إذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم في القعود .
فإن قلت: كيف جاز أن يوقع الله -تعالى- في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة، وتعالى الله عن إلهام القبيح ؟
قلت: خروجهم كان مفسدة; لقوله: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسنا ومصلحة .
فإن قلت: فلم خطأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأذن لهم فيما هو مصلحة ؟
قلت: لأن إذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى; ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوز في قبولها، فمن ثم أتاه العقاب، ويجوز أن يكون في ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا، وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قامت عليهم الحجة، ولم تبق لهم معذرة، ولقد تدارك الله ذلك; حيث هتك أستارهم، وكشف أسرارهم، وشهد عليهم بالنفاق، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .
فإن قلت: ما معنى قوله: مع القاعدين ؟
قلت: هو ذم لهم وتعجيز، وإلحاق بالنساء، والصبيان، والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون، والخالفون، والخوالف، ويبينه قوله تعالى: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف [التوبة: 87]. إلا خبالا : جنس من الاستثناء المنقطع في شيء [ ص: 51 ] كما يقولون; لأن الاستثناء المنقطع هو: أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيرا إلا خبالا، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر، وقع الاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلا; لأن الخبال بعض أعم العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئا إلا خبالا، والخبال: الفساد والشر، ولأوضعوا خلالكم : ولسعوا بينكم بالتضريب، والنمائم، وإفساد ذات البين; يقال: وضع البعير وضعا إذا أسرع وأوضعته أنا، والمعنى: ولأوضع ركائبهم بينكم، والمراد: الإسراع بالنمائم; لأن الراكب أسرع من الماشي، وقرأ -رضي الله عنه-: "ولأرقصوا" من رقصت الناقة رقصا إذا أسرعت وأرقصتها; قال [من الكامل]: ابن الزبير
......................... ... والراقصات إلى منى فالغبغب
وقرئ: "ولأوفضوا".
فإن قلت: كيف خط في المصحف: "ولا أوضعوا"، بزيادة ألف ؟
قلت: كانت الفتحة تكتب ألفا قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفا، وفتحتها ألفا أخرى، ونحو: أو لا أذبحنه، يبغونكم الفتنة : يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم، ويفسدوا نياتكم في مغزاكم، وفيكم سماعون لهم : أي: نمامون، يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم، أو فيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعونهم، لقد ابتغوا الفتنة : أي: العنت، ونصب الغوائل، والسعي في تشتيت شملك، وتفريق أصحابك عنك، كما فعل عبد الله بن أبي يوم أحد، حين انصرف بمن معه، وعن -رضي الله عنه-: وقفوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الثنية ليلة ابن جريج العقبة، وهم اثنا عشر رجلا ليفتكوا به، من قبل : من قبل غزوة تبوك، وقلبوا لك الأمور : ودبروا لك الحيل والمكايد، دوروا الآراء في إبطال أمرك، وقرئ: "وقلبوا" بالتخفيف، حتى جاء الحق : وهو تأييدك ونصرك، وظهر أمر الله : وغلب دينه وعلا شرعه .