يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ [ ص: 105 ] الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون
مع الصادقين : وقرئ: "من الصادقين" وهم نية وقولا وعملا، أو الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم لله ورسوله على الطاعة من قوله: الذين صدقوا في دين الله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [الأحزاب: 23]، وقيل: هم الثلاثة، أي: كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم. وعن -رضي الله عنه-: الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب، أي: كونوا مع ابن عباس المهاجرين والأنصار، ووافقوهم وانتظموا في جملتهم، واصدقوا مثل صدقهم. وقيل: لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك . وعن -رضي الله عنه-: ولا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجزه، اقرءوا إن شئتم: "وكونوا مع الصادقين" فهل فيها من رخصة؟ ابن مسعود ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه : أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيموا لها وزنا، [ ص: 106 ] وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلا عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية ، "ذلك": إشارة إلى ما دل عليه قوله: " ما كان لهم أن يتخلفوا " ، من وجوب مشايعته، كأنه قيل ذلك الوجوب، "بـ" سبب: " أنهم لا يصيبهم " : شيء من عطش، ولا تعب، ولا مجاعة في طريق الجهاد، ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم، ولا يتصرفون في أرضهم تصرفا يغيظهم ويضيق صدورهم، ولا ينالون من عدو نيلا : ولا يرزؤونهم شيئا بقتل، أو أسر، أو غنيمة، أو هزيمة، أو غير ذلك، إلا كتب لهم به عمل صالح : واستوجبوا الثواب، ونيل الزلفي عند الله، وذلك مما يوجب المشايعة. ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة، لا الوطء بالأقدام والحوافر، كقوله -عليه السلام-: والموطئ: إما مصدر كالمورد، وإما مكان، فإن كان مكانا فمعنى يغيظ الكفار: يغيظهم وطؤه، والنيل -أيضا- يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا، وأن يكون بمعنى المنيل، ويقال: نال منه إذا رزأه ونقصه، وهو عام في كل ما يسوؤهم وينكبهم ويلحق بهم ضررا، وفيه دليل على أن من قصد خيرا، كان سعيه فيه مشكورا من قيام، وقعود، ومشي، وكلام، وغير ذلك، وكذلك الشر، وبهذه الآية استشهد أصحاب "آخر وطأة وطئها الله بوج"، أن [ ص: 107 ] المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك لنا الجيش في الغنيمة، لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم، ولقد أسهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أبي حنيفة لابني عامر ، وقد قدما بعد تقضي الحرب، وأمد -رضي الله عنه- أبو بكر الصديق المهاجر بن أبي أمية، وزياد بن أبي لبيد مع خمسمائة نفس، فلحقوا بعد ما فتحوا فأسهم لهم، عند بعكرمة بن أبي جهل : لا يشارك المدد الغانمين ، وقرأ الشافعي : "ظماء" بالمد، يقال: ظمئ ظماءة وظماء، عبيد ابن عمير ولا ينفقون نفقة صغيرة : ولو تمرة، ولو علاقة سوط، ولا كبيرة مثل ما أنفق -رضي الله عنه- في جيش العسرة، عثمان ولا يقطعون واديا : أي: أرضا في ذهابهم ومجيئهم، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل، وهو في الأصل: "فاعل" من ودى إذا سال، ومنه الودي، وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض، يقولون: لا تصل في وادي غيرك، إلا كتب لهم : ذلك من الإنفاق وقطع الوادي، ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى عمل صالح، وقوله: ليجزيهم : متعلق بكتب، أي: أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء .