قوله عز وجل:
في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون
قوله قبل: "في الدنيا" ابتداء آية، وقد تقدم تعلقه، وكون "تتفكرون" موقفا يقوي تعلق "في الدنيا" بـ "الآيات". وقرأ : "قل أصلح لهم خير". طاوس
وسبب الآية فيما قال ، السدي ، أن والضحاك العرب كانت عادتهم أن يتجنبوا مال اليتيم، ولا يخالطوه في مأكل ولا مشرب ولا شيء، فكانت تلك مشقة عليهم، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ، ابن عباس : سببها أن المسلمين; لما نزلت وسعيد بن المسيب ولا تقربوا مال اليتيم الآية، ونزلت: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما تجنبوا اليتامى وأموالهم، وعزلوهم عن أنفسهم، فنزلت: وإن تخالطوهم فإخوانكم الآية. وقيل: إن السائل ، وأمر الله تعالى نبيه أن يجيب [ ص: 537 ] بأن من قصد عبد الله بن رواحة فهو خير، وما فعل بعد هذا المقصد من مخالطة وانبساط بعوض منه فلا حرج، الإصلاح في مال اليتيم ورفع تعالى المشقة في تجنب اليتيم ومأكله ومشربه، وأباح الخلطة في ذلك، إذا قصد الإصلاح ورفق اليتيم.
مثال ذلك أن يكتفي اليتيم -دون خلطة- بقدر ما في الشهر، فإن دعت خلطة الولي إلى أن يزاد في ذلك القدر فهي مخالطة فساد، وإن دعت إلى الحط من ذلك القدر فهي مخالطة إصلاح. وقوله تعالى: فإخوانكم خبر ابتداء محذوف. وقوله والله يعلم المفسد من المصلح تحذير.
والعنت: المشقة، منه عنت العزبة، وعقبة عنوت. أي: شاقة، وعنت البعير إذا انكسر بعد جبر. فالمعنى: لأتعبكم في تجنب أمر اليتامى، ولكنه خفف عنكم.
وقال : المعنى لأوبقكم بما سلف من نيلكم من أموال اليتامى. ابن عباس
و"عزيز": مقتضاه لا يرد أمره، و"حكيم" أي محكم ما ينفذه.
وقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن الآية. قرأ جمهور الناس: "تنكحوا" بفتح التاء، وقرئت في الشاذ بالضم كأن المتزوج لها أنكحها من نفسه. ونكح أصله الجماع، ويستعمل في التزوج تجوزا واتساعا.
[ ص: 538 ] وقالت طائفة: "المشركات" هنا من يشرك مع الله إلها آخر، فلم تدخل اليهوديات ولا النصرانيات في لفظ هذه الآية ولا في معناها.
وسببها قصة أبي مرثد كناز بن حصين مع عناق التي كانت بمكة . وقال [ ص: 539 ] ، قتادة : لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص أي غير الكتابيات، وبينت الخصوص آية المائدة، ولم يتناول قط الكتابيات. وسعيد بن جبير
وقال ، ابن عباس : تناولهن العموم ثم نسخت آية سورة المائدة بعض العموم في الكتابيات، وهذا مذهب والحسن رحمه الله. ذكره مالك . ابن حبيب
وقال: ونكاح اليهودية والنصرانية، وإن كان قد أحله الله; مستثقل مذموم، وكره رحمه الله تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب، ولتصرفها في الخمر والخنزير، وأباح مالك نكاح الكتابيات ، عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وجابر بن عبد الله ، وطلحة ، وعطاء بن أبي رباح ، وابن المسيب ، والحسن ، وطاووس ، وابن جبير ، والزهري ، وعوام أهل والشافعي المدينة والكوفة . ومنه ، مالك والشافعي ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي وإسحاق ، وقال نكاح المجوسية. : لا يعجبني. وروي أن ابن حنبل تزوج مجوسية. وقال حذيفة بن اليمان ابن الفصار . قال بعض أصحابنا: يجب -على أحد القولين أن لهم كتابا- أن تجوز مناكحتهم. وقال في بعض ما روي عنه: إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من كان على غير الإسلام حرام. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فعلى هذا هي ناسخة للآية التي في سورة المائدة، وينظر إلى هذا قول في الموطأ "ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها ابن عمر عيسى .
[ ص: 540 ] وروي عن أنه فرق بين عمر طلحة بن عبيد الله وبين كتابيتين وقالا: نطلق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال: لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما، ولكن أفرق بينكما صغرة قمأة ، وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن وحذيفة بن اليمان أراد التفريق بينهما فقال له عمر : أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين ؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. وروي عن حذيفة نحو هذا. ابن عباس
وقوله تعالى: ولأمة مؤمنة إخبار أن المؤمنة المملوكة خير من المشركة، وإن كانت ذات الحسب والمال، ولو أعجبتكم في الحسن وغير ذلك، هذا قول وغيره. الطبري
وقال : السدي نزلت في ; كانت له أمة سوداء فلطمها في غضب، ثم ندم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وقال: هي تصوم وتصلي وتشهد الشهادتين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه مؤمنة" فقال عبد الله بن رواحة لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس فنزلت الآية فيه ابن رواحة .
-رحمه الله- لا يجوز عنده ومالك وقال نكاح الأمة الكتابية. في كتاب أشهب محمد فيمن أسلم وتحته أمة كتابية: إنه لا يفرق بينهما. وروى وغيره عن ابن وهب أن الأمة المجوسية لا يجوز أن توطأ بملك اليمين. مالك
[ ص: 541 ] وأصحابه يجيزون نكاح الإماء الكتابيات. وأبو حنيفة
وقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا الآية. بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على دين الإسلام، والقراء على ضم التاء من "تنكحوا". أجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة
وقال بعض العلماء: إن نص في لفظ هذه الآية، ولعبد مؤمن مملوك خير من مشرك حسيب، ولو أعجبك حسنه وماله حسبما تقدم. الولاية في النكاح
وليس التفضيل هنا بلفظة "خير" من جهة الإيمان فقط لأنه لا اشتراك من جهة الإيمان، لكن الاشتراك موجود في المعاشرة والصحبة وملك العصمة وغير شيء. وهذا النظر هو على مذهب في أن لفظة أفعل التي هي للتفضيل لا تصح حيث لا اشتراك. كقولك: الثلج أبرد من النار، والنور أضوأ من الظلمة. سيبويه
وقال ، وجماعة من الكوفيين: تصح لفظة أفعل حيث الاشتراك، وحيث لا اشتراك. وحكى الفراء عن مكي نفطويه أن لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجابا للأول ونفيا عن الثاني.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وتحتمل الآية عندي أن يكون ذكر العبد والأمة عبارة عن جميع الناس حرهم ومملوكهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: ، وكما نعتقد أن الكل [ ص: 542 ] عبيد الله، وكما قال تعالى: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله نعم العبد إنه أواب فكأن الكلام في هذه الآية "ولامرأة ولرجل".
وقوله تعالى: "أولئك" الإشارة إلى المشركات والمشركين، أي أن صحبتهم ومعاشرتهم توجب الانحطاط في كثير من هواهم مع تربيتهم النسل، فهذا كله دعاء إلى النار، مع السلامة من أن يدعو إلى دينه نصا من لفظه، والله تعالى يمن بالهداية ويبين الآيات، ويحض على الطاعات التي هي كلها دواع إلى الجنة. وقرأ : "والمغفرة" بالرفع على الابتداء. الحسن بن أبي الحسن
والإذن: العلم والتمكين فإن انضاف إلى ذلك أمر فهو أقوى من الإذن، لأنك إذا قلت: أذنت كذا، فليس يلزمك أنك أمرت. و"لعلهم" ترج في حق البشر، ومن تذكر; عمل حسب التذكر فنجا.