ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين
هذا ابتداء كلام، والواو في أوله عاطفة جملة الكلام على جملة وإن تباينت في المعاني، واختلف المفسرون في قوله: "الإنسان" فقال وغيره: أراد قتادة آدم -عليه السلام- لأنه استل من الطين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ويجيء الضمير في قوله تعالى: "ثم جعلناه" عائدا على ابن آدم -وإن كان لم يذكره- لشهرة الأمر، وأن المعنى لا يصلح إلا له، نظير ذلك حتى توارت بالحجاب وغيره. -وقال رضي الله عنهما- المراد بقوله: "الإنسان" ابن آدم. و ابن عباس سلالة من طين صفوة الماء.
قال القاضي أبو محمد -رحمه الله-:
وهذا على أنه اسم الجنس، ويترتب فيه أنه سلالة من حيث كان الكل عن آدم -عليه السلام- أو عن الأبوين المتقدمين بما يكون من الطين، وذلك السبع الذي جعل الله تعالى رزق ابن آدم فيها، وسيجيء قول -رضي الله عنهما- فيها إن شاء الله، وعلى هذا يجيء قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن السلالة هي صفوة الماء، يعني المني. وقال ابن عباس : مجاهد سلالة من طين : مني آدم .
[ ص: 282 ] قال القاضي أبو محمد -رحمه الله-:
وهذا بين; إذ آدم من طين وذريته من سلالة، وما يكون عن الشيء فهو سلالته، وتختلف وجوه ذلك الكون، فمنه قولهم للخمر: سلالة; لأنها سلالة العنب، ومنه قول الشاعر:
إذا أنتجت منها المهارى تشابهت على العود إلا بالأنوف سلائله
. . . . . . . . سليلة أفراس تحللها بغل
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا سلالة فرج كان غير حصين
[ ص: 283 ] و"النطفة" تقع في اللغة على قليل الماء وكثيره، وهي هنا لمني ابن آدم، و"القرار المكين" من المرأة هو موضع الولد، و"المكين": المتمكن، فكأن "القرار" هو المتمكن في الرحم. و"العلقة": الدم الغريض، و"المضغة": بضعة اللحم قدر ما يمضغ.
وقرأ الجمهور : "عظاما" في الموضعين، وقرأ ، ابن عامر -في رواية وعاصم -: "عظما" بالإفراد في الموضعين، وقرأ أبي بكر سلمة ، ، وقتادة ، والأعرج بالإفراد أولا وبالجمع في الثاني، وقرأ والأعمش ، مجاهد ، وأبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر بعكس ذلك، وفي قراءة : "ثم جعلنا المضغة عظاما وعصبا فكسوناه لحما". ابن مسعود
واختلف الناس في الخلق الآخر، فقال -رضي الله عنهما- ابن عباس ، والشعبي ، وأبو العالية ، والضحاك : هو نفخ الروح فيه، وقال وابن زيد -رضي الله عنهما- أيضا: خروجه إلى الدنيا، وقال ابن عباس -عن فرقة-: نبات شعره، وقال قتادة : كمال شبابه، وقال مجاهد أيضا: تصرفه في أمور الدنيا. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد -رحمه الله:
وهذا التخصيص كله لا وجه له، وإنما هو عام في هذا، وغيره من وجوه من النطق والإدراك وحسن المحاولة هو بها آخر، وأول رتبة من كونه آخر هي نفخ الروح فيه، والطرف الآخر من كونه آخر تحصيله المعقولات إلى أن يموت.
و"تبارك" هو مطاوع "بارك"، فكأنها بمنزلة "تعالى وتقدس"، من معنى البركة، وهذه الآية يروى -رضي الله عنه- لما سمع صدر الآية إلى قوله: "آخر" قال: "فتبارك الله أحسن الخالقين" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هكذا أنزلت" عمر بن الخطاب . [ ص: 284 ] ويروى أن قائل ذلك أن -رضي الله عنه- ويروى أن قائل ذلك هو معاذ بن جبل عبد الله بن أبي سرح ، وبهذا السبب ارتد وقال: أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد عليه الصلاة والسلام- وفيه نزلت: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء .
وقوله تعالى: أحسن الخالقين معناه: أحسن الصانعين، يقال لمن صنع شيئا: خلقه، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم، ومن هذه الآية " قال ابن عباس -رضي الله عنهما- حين سأله مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا: الله أعلم، فقال لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ما تقول يا عمر ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى خلق السماوات سبعا والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع، وجعل رزقه في سبع، فأراها في ليلة سبع وعشرين، فقال ابن عباس : أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى به هذا الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه" . وهذا الحديث بطوله في مسند عمر ابن أبي شيبة ، فأراد -رضي الله عنهما- بقوله: خلق ابن آدم من سبع . هذه الآية، وبقوله: جعل رزقه في سبع قوله تعالى: ابن عباس فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا الآية، السبع منها لابن آدم، والأب للأنعام، والقضب يأكله ابن آدم وتسمن به النساء، هذا قول، وقيل: القضب: البقول لأنها تقضب، فهي رزق ابن آدم، وقيل: القضب والأب للأنعام والستة الباقية لابن آدم، والسابعة هي الأنعام إذ هي من أعظم رزق ابن آدم.