قوله عز وجل:
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون
قال ، عروة بن الزبير ، وقتادة ، وغيرهم: نزلت هذه الآية بيانا لعدد [ ص: 561 ] الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع، دون تجديد مهر وولي، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يطلقون ويرتجعون إلى غير غاية، فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤويك ولا أدعك تحلين. فقالت: وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فشكت ذلك، فنزلت الآية . وابن زيد
وقال ، ابن عباس ، وابن مسعود وغيرهم: المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها. ومجاهد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والآية تتضمن هذين المعنيين.
والإمساك بالمعروف: هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة، والتزام حقوق الزوجية. والتسريح يحتمل لفظه معنيين أحدهما: تركها تتم العدة من الثانية، وتكون أملك بنفسها، وهذا قول ، السدي ، والمعنى الآخر: أن يطلقها ثالثة فيسرحها بذلك، وهذا قول والضحاك ، مجاهد ، وغيرهما، ويقوى عندي هذا القول من ثلاثة وجوه أولها: أنه روي وعطاء أو تسريح بإحسان . والوجه الثاني: أن [ ص: 562 ] أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: هذا ذكر الطلقتين فأين الثالثة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي قوله: ألا ترى أنه قد قرئ: "وإن عزموا السراح". التسريح من ألفاظ الطلاق،
والوجه الثالث: أن فعل تفعيلا بهذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل، و "إمساك" مرتفع بالابتداء، والخبر: أمثل، أو أحسن، ويصح أن يرتفع على خبر ابتداء تقديره: فالواجب إمساك، وقوله: "بإحسان" معناه ألا يظلمها شيئا من حقها، ولا يتعدى في قول.
وقوله تعالى: ولا يحل لكم أن تأخذوا الآية، خطاب للأزواج، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئا على وجه المضارة، وهذا هو الخلع الذي لا يصح إلا بألا ينفرد الرجل بالضرر.
وخص بالذكر ما آتى الأزواج نساءهم، لأن العرف من الناس أن يطلب الرجل عند الشقاق والفساد ما خرج عن يده، هذا وكدهم في الأغلب فلذلك خص بالذكر.
وقرأ جميع السبعة -إلا "يخافا" بفتح الياء على بناء الفعل للفاعل، فهذا باب "خاف" في التعدي إلى مفعول واحد، وهو "أن"، وقرأ حمزة- وحده "يخافا" بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، فهذا على تعدية "خاف" إلى مفعولين أحدهما أسند الفعل إليه، والآخر أن بتقدير حرف جر محذوف. فموضع "أن" خفض بالجار المقدر عنه حمزة سيبويه ونصب عند غيرهما لأنه لما حذف الجار، وصار الفعل إلى المفعول الثاني مثل استغفر الله ذنبا، وأمرتك الخير. والكسائي
[ ص: 563 ] وفي مصحف : "إلا أن يخافوا" بالياء وواو الجمع والضمير على هذا للحكام ومتوسطي أمور الناس. ابن مسعود
وحرم الله تعالى على الزوج -في هذه الآية- أن يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما، وأكد التحريم بالوعيد لمن تعدى الحد. وأجمع عوام أهل العلم على تحظير أخذ مالها، إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها. قال : روينا ذلك عن ابن المنذر ، ابن عباس ، والشعبي ، ومجاهد ، وعطاء ، والنخعي ، وابن سيرين والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، والزهري وحميد بن عبد الرحمن ، ، وقتادة ، وسفيان الثوري ، ومالك وإسحاق ، وأبي ثور .
وقال رحمه الله، مالك ، وجماعة معهما: فإن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج. وتفاقم ما بينهما فالفدية جائزة للزوج. والشعبي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ومعنى ذلك أن يكون الزوج -لو ترك فساده- لم يزل نشوزها هي.
وأما إن انفرد الزوج بالفساد فلا أعلم أحدا يجيز له الفدية إلا ما روي عن أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قبله فخالعته. فهو جائز ماض، وهو آثم لا يحل ما صنع، ولا يرد ما أخذ. قال أبي حنيفة : وهذا خلاف ظاهر كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قيل لأحد: أجهد نفسك في طلب الخطأ ما وجد أمرا أعظم من أن ينطق القرآن بتحريم شيء فيحله هو ويجيزه. ابن المنذر
و"حدود الله" -في هذا الموضع- هي ما يلزم الزوجين من حسن العشرة وحقوق العصمة.
[ ص: 564 ] ونازلة حبيبة بنت سهل ، وقيل: جميلة بنت أبي ابن سلول -والأول أصح- مع حين أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الفدية منها ، إنما كان التعسف فيها من المرأة لأنها ذكرت عنه كل خير وأنها لا تحب البقاء معه. ثابت بن قيس
وقوله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله المخاطبة للحكام والمتوسطين لمثل هذا الأمر وإن لم يكن حاكما، وترك إقامة حدود الله هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه. قاله ، ابن عباس ، وجمهور الفقهاء، وقال ومالك بن أنس ، وقوم معه: إذا قالت له لا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، حل الخلع. وقال الحسن بن أبي الحسن : الشعبي ألا يقيما حدود الله معناه: ألا يطيعا الله، وذلك أن المغاضبة تدعو إلى ترك الطاعة. وقال : يحل عطاء بن أبي رباح والأخذ أن تقول المرأة لزوجها إني لأكرهك ولا أحبك، ونحو هذا. الخلع
وقوله تعالى: فلا جناح عليهما فيما افتدت به إباحة للفدية، وشركهما في ارتفاع الجناح، لأنها لا يجوز لها أن تعطيه مالها، حيث لا يجوز له أخذه، وهي تقدر على المخاصمة، فإذا كان الخوف المذكور جاز له أن يأخذ ولها أن تعطي، ومتى لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على طالب الفراق.
وقال ، ابن عمر والنخعي، ، وابن عباس ، ومجاهد رضي الله عنه، وعثمان بن عفان ، ومالك ، والشافعي وأبو حنيفة، ، وعكرمة وقبيصة بن ذؤيب ، ، وغيرهم: مباح للزوج أن يأخذ من المرأة في الفدية جميع ما تملكه، وقضى بذلك وأبو ثور . وقال عمر بن الخطاب ، طاوس ، والزهري ، وعطاء وعمر بن شعيب ، ، والحسن ، [ ص: 565 ] والشعبي والحكم ، ، وحماد ، وأحمد وإسحاق : لا يجوز له أن يزيد على المهر الذي أعطاها، وبه قال ، وكان يقرأ هو الربيع : "فيما افتدت به منه" بزيادة "منه" يعني: مما آتيتموهن، وهو المهر، وحكى والحسن بن أبي الحسن هذا القول عن مكي ، أبي حنيفة أثبت. وقال وابن المنذر : لا أرى أن يأخذ منها كل مالها، ولكن ليدع لها شيئا، وقال ابن المسيب : لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجه شيئا خلعا قليلا ولا كثيرا قال: وهذه الآية منسوخة بقوله عز وجل: بكر بن عبد الله المزني وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف لأن الأمة مجمعة على إجازة الفدية، ولأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال.
وقوله تعالى: تلك حدود الله الآية، أي هذه الأوامر والنواهي هي المعالم بين الحق والباطل، والطاعة والمعصية، فلا تتجاوزوها. ثم توعد تعالى على تجاوز الحد، ووصف المتعدي بالظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، والظلم معاقب صاحبه. وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: . الظلم ظلمات يوم القيامة