قوله عز وجل:
ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون
جمع "الموازين" من حيث الموزون جمع وهي الأعمال، ومعنى الوزن: إقامة الحجة على الناس بالمحسوس على عادتهم وعرفهم، ووزن الكافر على أحد وجهين: إما أن يوضع كفره في كفة فلا يجد شيئا يعادله في الكفة الأخرى، وإما أن توضع أعماله من صلة رحم ووجه بر في كفة الحسنات ثم يوضع كفره في الكفة الأخرى فتخف أعماله.
و "لفح النار": إصابتها بالوهج والإحراق، وقرأ أبو حيوة : "كلحون" بغير ألف، و "الكلح": انكشاف الشفتين عن الأسنان، وهذا يعتري الإنسان عند المباطشة عند الغضب، ويعتري الرؤوس عند النار، وقد شبه رضي الله عنه ما في هذه الآية بما يعتري رؤوس الكباش إذا شيطت بالنار فإنها تكلح، ومنه كلوح الكلب والأسد، ويستعار للزمان والخطوب. عبد الله بن مسعود
وقوله تعالى: ألم تكن آياتي تتلى عليكم قبله محذوف تقديره: يقال لهم، [ ص: 323 ] و "الآيات" هنا: القرآن، وأخبر عنهم تعالى أنهم إذا سمعوا هذا التقرير أذعنوا، وأقروا على أنفسهم، وسلموا بقولهم: غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين . وقرأ جمهور الناس: "شقوتنا" بكسر الشين دون ألف، وهي قراءة الحرميين، وقرأ الحمزة : "شقاوتنا" بفتح الشين وألف بعد القاف، وهي قراءة والكسائي ، وخير ابن مسعود في الوجهين، وهما مصدران من شقي يشقى، ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع، وذلك أنهم ذلوا; لأن الإقرار بالذنب اعتذار وتنصل، فوقع جواب رغبتهم بحسب ما حتم الله تعالى من عذابهم بقوله تعالى: عاصم اخسئوا فيها ولا تكلمون ، وجاء "ولا تكلمون" بلفظ نهي وهم لا يستطيعون الكلام على ما روي، فهذه مبالغة في المنع، ويقال: إن هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا.
وحكى حديثا طويلا في مقاولة تكون بين الكفار وبين الطبري مالك خازن النار، ثم بينهم وبين ربهم، وآخرها هذه الكلمة "اخسئوا فيها"، قال: فتنطبق عليهم جهنم، ويقع اليأس، ويبقون ينبح بعضهم في وجه بعض.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
واختصرت ذلك الحديث لعدم صحته، لكن معناه صحيح، عافانا الله من ناره بمنه.
وقوله تعالى: "اخسئوا" زجر، وهو مستعمل في زجر الكلاب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد : . اخسأ فلن تعدو قدرك
[ ص: 324 ]