وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين
ثم إن الله عز وجل لما أراد إظهار أمره في نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه، أمر موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر ، وأخبره أنهم سيتبعون، وأمره بالسير تجاه البحر، وأمره بأن يستعير بنو إسرائيل حلي القبط وأموالهم، وأن يكثروا من أخذ أموالهم كيفما استطاعوا، هذا ما رواه بعض المفسرين، وأمره باتخاذ جراء الزاد، فأمره أن اتخذ فطيرا لأنه أبقى وأثبت، وروي أن الحركة أعجلتهم عن اتخاذ جراء الزاد، وخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل سحرا، فترك الطريق إلى الشام على يساره وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق فيقول موسى عليه السلام : كذا أمرت، فلما أصبح فرعون وعلم بسري موسى ببني إسرائيل خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر، فروي أنه لحقه ومعه ستمائة ألف أدهم من الخيل حاشى سائر الألوان، وروي أن بني إسرائيل كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفا، قاله رضي الله عنهما، والله أعلم بصحته، وإنما اللازم من الآية الذي يقطع به أن ابن عباس موسى عليه السلام خرج بجمع عظيم في بني إسرائيل ، وأن فرعون تبعه بأضعاف ذلك العدد، قال رضي الله عنهما: كان مع ابن عباس فرعون ألف جبار، كلهم عليه تاج، وكلهم أمير خيل .
[ ص: 483 ] و "الشرذمة": الجمع القليل المحتقر، وشرذمة كل شيء بقيته الخسيسة، وأنشد : أبو عبيدة
مجدين في شراذم النعال
وقال الآخر:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق شراذم يضحك منها التواق
وقرأ ، ابن كثير : "حذرون"، وهو جمع "حذر"، وهو المطبوع على الحذر وهو هنا غير عامل، وكذلك هو في قول وأبو عمرو أبي أحمر :
هل أنسأن يوما إلى غيره إني حوالي وإني حذر
[ ص: 484 ]
حذر أمورا لا تضير وآمن ما ليس منجيه من الأقدار
وادعى اللاحقي تدليس هذا البيت على . وقرأ سيبويه ، عاصم ، وابن عامر ، وحمزة : "حاذرون" وهو الذي أخذ يحذر، وقال والكسائي عباس بن مرداس :
وإني حاذر أنمي سلاحي إلى أوصال ذيال صنيع
وقرأ ابن أبي عمارة ، وسميط بن عجلان : "حادرون" بالدال غير منقوطة، من قولهم: "عين حدرة" أي: ممتلئة، فالمعنى: ممتلئون غيظا وأنفة.
والضمير في قوله تعالى: فأخرجناهم عائد على القبط. و "الجنات والعيون" بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد ، قاله -رضي الله عنهما- وغيره. و "الكنوز" [ ص: 485 ] قيل: هي إشارة إلى الأموال التي خربوها، قال ابن عمر : لأنهم لم ينفقوها قط في طاعة، وقيل: هي إشارة إلى كنوز مجاهد المقطم ومطالبه، وهي باقية إلى اليوم. "والمقام الكريم" قال : هو ابن لهيعة الفيوم ، وقيل: يعني به المنابر، وقيل: مجالس الأمراء والحكام، وقال : المجالس الحسان، وقرأ الحسن الأعرج بضم الميم، من: "أقام". وقتادة
وتوريث بني إسرائيل يحتمل مقصدين: أحدهما أن الله قد ورثهم هذه الضفة من أرض الشام ، والآخر أنه ورثهم مصر ولكن بعد مدة طويلة من الدهر، قاله ، على أن التواريخ لم تتضمن ملك بني إسرائيل في الحسن مصر ، و "مشرقين" معناه: عند شروق الشمس، أي: حين دخلوا فيه، وقيل: معناه: نحو الشرق، وقرأ : "فاتبعوهم" بصلة الألف وشد التاء. الحسن
فلما لحق فرعون بجمعه جمع موسى عليه السلام وقرب منهم، ورأت بنو إسرائيل العدو القوي وراءهم والبحر أمامهم ساءت ظنونهم، وقالوا لموسى عليه السلام -على جهة التوبيخ والجفاء-: إنا لمدركون ، أي: هذا دأبك، فرد عليهم قولهم وزجرهم، وذكر وعد الله تبارك وتعالى له بالهداية والظفر. وقرأ الجمهور : "إنا لمدركون"، وقرأ الأعرج : "إنا لمدركون" بتشديد الدال وفتح الراء، ومعناه: يتتابع علينا حتى نفنى. وقرأ وعبيد بن عمير حمزة : "تريء الجمعان" بكسر الراء بمد ثم بهمز، وروي مثله عن والكسائي ، وروي أيضا عنه مفتوحا ممدودا. والجمهور يقرؤونه مثل [ ص: 486 ] "تراعى"، وهذا هو الصواب; لأنه تفاعل، قال عاصم : وقراءة أبو حاتم في هذا الحرف محال، وحمل عليه وقال: وما روي عن حمزة ابن وثاب خطأ. والأعمش