قوله عز وجل:
وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون
لما كان في هذا الموضع ما قال الكفار لأنهم قالوا: إن هذا القرآن كهانة- نزلت هذه الآية مكذبة لذلك، أي: ما تنزلت به الشياطين; لأنها عزلت عن السمع الذي كانت تأخذ له مقاعدها، وقوله: وما ينبغي لهم أي: ما يمكنهم، وقد تجيء هذه اللفظة عبارة عما لا يكون، وعبارة عما لا يليق وإن كان ممكنا، ولما جاء الله تعالى بالإسلام [ ص: 509 ] حرس السماء بالشهب الجارية إثر الشياطين، فلم يخلص شيطان بشيء يلقيه كما كان يتفق لهم في الجاهلية.
وقرأ الجمهور : "الشياطين"، وروي عن أنه قرأ: "الشياطون"، وهي قراءة مردودة، قال الحسن : هي غلط منه أو عليه، وحكاها أبو حاتم أيضا عن الثعلبي ابن السميفع ، وذكر عن أنه قال: سمعت أعرابيا يقول: دخلت بساتين من ورائها بساتون، قال يونس بن حبيب يونس : ما أشبه هذه بقراءة . الحسن
ثم وصى عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالثبوت على توحيد أمر الله تبارك وتعالى، وأمر بنذارة عشيرته تخصيصا لهم، إذ العشيرة مظنة المقاربة والطواعية، وإذ يمكنه معهم من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيرهم، فإن البر بهم في مثل هذا الحمل عليهم، والإنسان غير متهم على عشيرته، وكان هذا التخصيص مع الأمر العام بنذارة العالم. وروي عن أن المؤمنين من غير عشيرته في ذلك الوقت نالهم هم من هذا التخصيص وخروجهم منه، فنزلت: ابن جريج واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النذارة عظم موضع الأمر عليه وصعب، ولكنه تلقاه بالجلد، وصنع أشياء مختلفة كلها بحسب الأمر، من ذلك "أنه أمر رضي الله عنه بأن يصنع طعاما، وجمع عليه بني جده عليا عبد المطلب ، وأراد نذارتهم ودعوتهم في ذلك الجمع، فظهر منه عليه السلام بركة في الطعام، قال : وهم يومئذ أربعون رجلا، ينقصون رجلا أو يزيدونه، فرماه علي أبو لهب بالسحر، فوجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وافترق جمعهم من غير شيء، ثم جمعهم مرة ثانية كذلك وأنذرهم ووعظهم فتضاحكوا ولم يجيبوا، ومن ذلك أنه نادى عمه ، العباس عمته، وصفية ابنته رضي الله عنهم، وقال: "لا أغني عنكم من الله شيئا، إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد وفاطمة في حديث مشهور، ومن ذلك الصفا ، أو أبي قبيس ونادى: يا بني عبد مناف ، [ ص: 510 ] وا صباحاه، فاجتمع إليه الناس من أهل مكة ، فقال: يا بني فلان، يا بني فلان، حتى أتى على بطون قريش جميعا، فلما تكامل خلق كثير من كل بطن قال لهم: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد الغارة عليكم، أكنتم مصدقي"؟ قالوا: نعم، فإنا لم نجرب عليك كذبا، فقال لهم: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال له أبو لهب لعنه الله: ألهذا جمعتنا؟ تبا لك سائر اليوم، فنزلت: تبت يدا أبي لهب وتب السورة. أنه صعد على
و "العشيرة": قرابة الرجل، وهي في الرتبة تحت الفخذ وفوق الفصيلة. و "خفض الجناح" استعارة، معناه: لين الكلمة وبسط الوجه والبر، والضمير في "عصوك" عائد على عشيرته من حيث جمعت رجالا، فأمره الله تعالى بالتبري منهم، وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف.