وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم
اختلف الناس في معنى "تفقده الطير"، فقالت فرقة: ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والتهمم بكل جزء منه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وظاهر الآية أنه تفقد جميع الطير، وقالت فرقة: بل تفقد الطير لأن الشمس دخلت من على الملك من موضع الهدهد حين غاب، فكان ذلك سبب تفقد الطير ليتبين من أين دخلت الشمس، وقال : إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض; لأنه كان نزل في مفازة حرم فيها الماء، ولأن الهدهد كان يرى بطن الأرض وظاهرها، كانت تشف له، وكان يخبر عبد الله بن سلام سليمان عليه السلام بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة، تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة، قاله رضي الله عنهما فيما روي عن ابن عباس أبي سلام وغيره، وقال في كتاب : كان الهدهد مهندسا، وروي أن النقاش نافع بن الأزرق سمع رضي الله عنهما يقول هذا، فقال له: قف يا وقاف، كيف يرى الهدهد بطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه؟ فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إذا جاء القضاء عمي البصر ، وقال ابن عباس : كانت الطير تنتاب وهب بن منبه سليمان عليه السلام كل يوم من كل نوع واحد نوبة معهودة، ففقد الهدهد.
وقوله تعالى: ما لي لا أرى إنما المقصد أن الهدهد غاب، لكنه أخذ اللازم عن غيابه وهو ألا يراه، فاستفهم -على جهة التوقيف- عن اللازم، وهذا ضرب من الإيجاز والاستفهام الذي في قوله "ما لي" ناب مناب الألف التي تحتاجها "أم". ثم توعده [ ص: 529 ] عليه السلام بالعذاب، وروي عن ابن عباس ومجاهد أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه أجمع، وقال وابن جريج يزيد بن رومان : جناحه، وروي عن وهب أنه بأن ينتف بعضه ويبقى بضعه. و "السلطان": الحجة حيث وقع في القرآن، قاله عن عكرمة ، وقرأ ابن عباس وحده: "ليأتينني" بنونين، وفعل عكرمة سليمان عليه السلام هذا بالهدهد وحده إغلاظا عن العاصين، وعلى إخلاله بنوبه ورتبته.
وقرأ جمهور القراء: "فمكث" بضم الكاف، وقرأ وحده: "فمكث" بفتحها، ومعناه -في القراءتين-: أقام، والفتح في الكاف أحسن; لأنها لغة القرآن في قوله: "ماكثين"; إذ هو من "مكث" بفتح الكاف، ولو كان من "مكث" بضم الكاف لكان جمع "مكيث"، والضمير في "مكث" يحتمل أن يكون عاصم لسليمان عليه السلام أو الهدهد، وفي قراءة : "فتمكث ثم جاء فقال"، وفي قراءة ابن مسعود : "فتمكث ثم قال أحطت". وقوله: "غير بعيد" كما في مصاحف الجمهور يريد به الزمن والمدة، وقوله: "أحطت" أي: علمت علما تاما ليس في علمك. أبي
واختلف القراء في "سبأ"، فقرأ الجمهور: "سبأ" بالصرف، وقرأ ، ابن كثير : "سبأ" بفتح الهمزة وترك الصرف، وقرأ وأبو عمرو : "من سبإ" بالكسر وترك الصرف، وروى الأعمش عن ابن حبيب "سبأ" بألف ساكنة، وقرأ اليزيدي -عن قنبل النبال - بسكون الهمزة، فالأولى على أنه اسم رجل، وعليه قول الشاعر:
الواردون وتيم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
[ ص: 530 ] وقال الآخر:
من سبأ الحاضرين مآرب ....................
وهذا على أنها قبيلة، والثانية على أنها بلدة، قاله الحسن ، وكلا القولين قد قيل، ولكن روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث وقتادة فروة بن مسيك وغيره أنه ، وحكي هذا الحديث على ولد له عشرة من الولد، تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة فخبط عشواء. والثالثة على البناء. والرابعة والخامسة لتوالي الحركات السبع فسكن تخفيفا للتثقيل في توالي الحركات، وهذه القراءة لا تبنى على الأولى، بل هي إما على الثانية أو الثالثة. وقرأت فرقة دون تنوين على الإضافة، وقرأت فرقة "بنبى" بالألف مقصورة. الزجاج
[ ص: 531 ] وقوله: وأوتيت من كل شيء مبالغة، أي: مما تحتاج المملكة، قال : من كل أمر الدنيا، ووصف عرشها بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان، وروي عن الحسن الوقف على [عرش]، فـ "عظيم" -على هذا- متعلق بما بعده، وهذه المرأة هي نافع بلقيس بنت شراحيل فيما قال بعضهم، وقيل: بنت القشرح ، وقيل: كانت أمها جنية، وأكثر بعض الناس في قصصها بما رأيت اختصاره لعدم صحته، وإنما اللازم من الآية أنها مختصة بامرأة ملكت على مدائن اليمن ، وكانت ذات ملك عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار.