قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين
أراد سليمان في هذا "التنكير" تجربة ميزها ونظرها، وليزيد في الإغراب عليها، وروت فرقة: أن الجن أحست من سليمان أو ظنت به أنه ربما تزوج بلقيس ، فكرهوا ذلك، ورموها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة، وبأن رجلها كحافر دابة، فجرب عقلها [ ص: 542 ] وميزها بتنكير عرشها، وجرب أمر رجلها بأمر الصرح لتكشف عن ساقها عنده. وقرأ أبو حيوة : "تنظر" بضم الراء.
وتنكير العرش تغيير وصفه وستر بعضه ونحو هذا، وقال ، ابن عباس ، ومجاهد : تنكيره بأن زيد فيه ونقص منه، وهذا يعترض بأن من حقها -على هذا- أن تقول: ليس به وتكون صادقة. وقولها: "كأنه هو" تحرز فصيح، ونحوه قوله تعالى: والضحاك كأنه ولي حميم ، وقال الحسن بن الفضل : شبهوا عليها فشبهت عليهم، ولو قالوا: هذا عرشك؟ لقالت: نعم، وفي الكلام حذف تقديره: فنكروا عرشها، ونظروا ما جوابها إذا سئلت عنه، فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك؟ وقال سليمان عليه السلام عند ذلك: وأوتينا العلم من قبلها الآية، وهذا منه على جهة تعديد نعمة الله تعالى عليه وعلى آبائه.
وقوله تعالى: وصدها ما كانت تعبد الآية، يحتمل أن يكون من قول نبي الله سليمان عليه السلام ، ويحتمل أن يكون من قول الله تبارك وتعالى إخبارا لمحمد صلى الله عليه وسلم، و "الصاد": ما كانت تعبد، أي عن الإيمان ونحوه، وقال : عن التفطن للعرش; لأن المؤمن فطن يقظ والكافر خبيث، أو يكون الصاد الرماني سليمان عليه السلام ، قاله ، أو يكون الصاد الله عز وجل. ولما كان "صدها" بمعنى (منعها)، تجاوز -على هذا التأويل- بغير حرف جر، وإلا فإنه لا يتعدى إلا بـ "عن". وقرأ جمهور الناس: "إنها" بكسر الهمزة، وقرأ الطبري ، سعيد بن جبير : "أنها" بفتح الهمزة، وهو على تقدير: ذلك أنها، أو على البدل من "ما"، قاله وابن أبي عبلة . محمد بن كعب القرظي
ولما وصلت بلقيس : أمر سليمان عليه السلام الجن فصنعت له صرحا، وهو السطح في الصحن من غير سقف، وجعلته مبنيا كالصهريج، وملئ ماء، وبث فيه السمك والضفادع، وطبق بالزجاج الشفاف، وبهذا جاء صرحا، والصرح أيضا كل بناء عال، وكل هذا من التصريح، وهو الإعلان البالغ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي، فلما وصلته بلقيس قيل لها: ادخلي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرأت اللجة وفزعت وظنت أنه قصد بها الغرق، وعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر فكشفت عن ساقيها، فرأى سليمان ساقيها سليمتين مما قالت الجن غير أنها كثيرة الشعر، [ ص: 543 ] فلما بلغت هذا الحد قال لها سليمان عليه السلام : إنه صرح ممرد من قوارير ، و "الممرد": المحكوك الأملس، ومنه: الأمرد، والشجرة المرداء: التي لا ورق عليها، والممرد أيضا: المطول، ومنه قيل للحصن: مارد، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت، وأقرت على نفسها بالظلم، فروي أن سليمان عليه السلام تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام ، قاله ، وقال الضحاك سعيد بن عبد العزيز في كتاب : تزوجها وردها إلى ملكها النقاش باليمن ، وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة، فولدت له ولدا أسماه داود ، مات في حياته، و"مع" ظرف، وقيل: حرف بني على الفتح، وأما إذا سكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى.
وقرأ وحده -في رواية ابن كثير الإخريط -: "عن سأقيها" بالهمز، قال : وهي ضعيفة، وكذلك يضعف الهمز في قراءة أبو علي : "يكشف عن سأق"، وأما همز "بالسؤق"، و "على سؤقه" فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة، حكى قنبل أن أبو علي أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة، وأنشد:
أحب المؤقدان إليك مؤسى ..........
[ ص: 544 ] ووجهها أن الضمة تقوم على الواو إذ لا حائل بينهما. وقرأ : "عن رجلها". وروي أن ابن مسعود سليمان عليه السلام لما أراد زوال شعر ساقيها أشفق من حمل الموسى عليها، وقيل: إنها قالت: ما مسني حديد قط، فأمر الجن بالتلطف في زواله فصنعوا النورة ولم تكن قبل في الأمم.
وهذه الأمور التي فعلها سليمان عليه السلام : من سوق العرش، وعمل الصرح، وغير ذلك، قصد بها الإغراب عليها، كما سلكت هي قبل سبيل ملوك الدنيا في ذلك بأن أرسلت الجواري والغلمان، واقترحت في أمر القدح والدرتين.