قوله عز وجل:
بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون
الإضراب بـ"بل" هو عما تضمنه معنى الآية الأولى، كأنه يقول: ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من تشريكهم مع الله تعالى، بل اتبعوا أهواءهم جهالة وشهوة وقصدا لأمر دنياهم. ثم قرر - على جهة التوبيخ لهم - على من يهدي إذا أضل الله؟ أي: لا هادي لأهل هذه الحال، ثم أخبر أنه لا ناصر لهم.
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بإقامة وجهه للدين المستقيم، وهو دين الإسلام، وإقامة الوجه هي تقويم المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين، وذكر الوجه لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه، و"حنيفا" معناه: معتدلا مائلا عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة، وقوله: فطرت الله التي فطر الناس عليها نصب على المصدر، كقوله: صبغة الله ، وقيل: هو نصب بفعل مضمر تقديره: اتبع والزم فطرة الله تعالى، واختلف الناس في الفطرة هاهنا، فذكر وغيره في ذلك جميع ما يمكن أن تصرف هذه اللفظة عليه، وفي بعض ذلك قلق، والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة [ ص: 24 ] أنها الخلقة والهيئة في نفس الطفل التي هي معدة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربه جل وعلا ويعرف شرائعه، ويؤمن به، فكأنه تعالى قال: فأقم وجهك للدين الذي هو الحنيف وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر، لكن تعرضهم العوارض، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: مكي فذكر الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة. "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه..." الحديث،
وقوله تعالى: لا تبديل لخلق الله يحتمل تأويلين: أحدهما أن يريد بها هذه الفطرة المذكورة، أي: اعلم أن هذه الفطرة لا تبديل لها من جهة الخالق، ولا يجيء الأمر على خلافها بوجه، والآخران أن يكون قوله: لا تبديل لخلق الله إنحاء على الكفرة، اعترض به أثناء الكلام، كأنه يقول: أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا، فإن هؤلاء الكفار قد خلق الله لهم الكفر، ولا تبديل لخلق الله، أي إنهم لا يفلحون. وقال : المعنى: لا تبديل لدين الله، وهو قول مجاهد ، ابن جبير ، والضحاك ، وابن زيد . والنخعي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا معناه: لا تبديل للمعتقدات التي هي في الدين الحنيف، فإن كل شريعة هي عقائدها.
وذهب بعض المفسرين في هذه الآية إلى تأويلات: منها قول - وقد روي عن عكرمة رضي الله عنهما -: ابن عباس لا تبديل لخلق الله معناه: النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. ومنها قول بعضهم في الفطرة: إنها الملة. على أنه قد قيل في الفطرة: [ ص: 25 ] الدين. وتأول قوله تبارك وتعالى: "فطر الناس" على الخصوص، أي: المؤمنين. وقيل: الفطرة هو العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين أخرجهم نسما من ظهره، ونحوه حديث رضي الله عنه حين مر به معاذ رضي الله عنه، فقال: يا عمر بن الخطاب ، ما قوام هذه الأمة؟ قال: الإخلاص، وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والصلاة وهي الدين، والطاعة وهي العصمة، فقال معاذ رضي الله عنه: صدقت. عمر
و"القيم" بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى الاستقامة.
وقوله تعالى: "منيبين" يحتمل أن يكون حالا من قوله: فطر الناس ، لا سيما على رأي من رأى أن ذلك خصوص في المؤمنين، ويحتمل أن يكون حالا من قوله: فأقم وجهك ، وجمعه لأن الخطاب بإقامة الوجه للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، نظيرها قوله تبارك وتعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء و"المنيب": الراجع المخلص المائل إلى جهة ما توده نفسه، و"المشركون" المشار إليهم في هذه الآية هم اليهود والنصارى، قاله ، وقال قتادة : هم اليهود، وقالت ابن زيد عائشة رضي الله عنهما: هي في أهل القبلة. وأبو هريرة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فلفظة الإشراك - على هذا - فيها تجوز، فإنهم صاروا في دينهم فرقا، و"الشيع": الفرق، واحدها: شيعة، وقوله: كل حزب بما لديهم فرحون معناه أنهم مفتونون بآرائهم، معجبون بضلالهم، وذلك أصيل فيهم. وقرأت فرقة: "فارقوا دينهم" بالألف.