قوله عز وجل:
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون
هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان، ووجه ذلك بأنها من معنى كلام الطبري لقمان، ومما قصده، وذلك غير متوجه; لأن كون الآيتين في شأن - حسب ما ذكره بعد - يضعف أن تكون مما قاله سعد بن أبي وقاص لقمان، وإنما الذي يشبه أنه اعتراض أثناء الموعظة، وليس ذلك بمفسد للأول منها ولا للآخر، ولما فرغ من هاتين الآيتين [ ص: 47 ] عاد إلى الموعظة على تقدير إضمار: "وقال أيضا لقمان"، ثم اختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه.
وهذه الآية شرك الله تعالى الأم والوالد منها في رتبة الوصية بهما، ثم خصص الأم بدرجة ذكر الحمل، وبدرجة ذكر الرضاع، فتحصل للأم ثلاث مراتب، وللأب واحدة، وأشبه ذلك فجعل له الربع من المبرة كالآية. قول الرسول صلى الله عليه وسلم - حين قال له رجل -: من أبر؟ قال: "أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك"
و وهنا على وهن معناه: ضعفا على ضعف، وقيل: إشارة إلى مشقة الحمل ومشقة الولادة بعده، وقيل: إشارة إلى ضعف الولد وضعف الأم معه، ويحتمل أن أشار إلى تدرج حالها في زيادة الضعف، فكأنه لم يعين ضعفين، بل كأنه قال: حملته أمه والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمده. وقرأ : "وهنا على وهن" بفتح الهاء، ورويت عن عيسى الثقفي . وهما بمعنى واحد. أبي عمرو
وقرأ جمهور الناس: "وفصاله"، وقرأ الحسن، والجحدري، "وفصله"، وأشار بالفصال إلى تحديد ويعقوب: فعبر عنه بغايته ونهايته، والناس مجمعون "على العامين" في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات، وأما في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعامين لا زيادة ولا نقص، وقالت فرقة: العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع في حكم واحد يحرم، وقالت فرقة: إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرم. مدة الرضاع،
وقوله تعالى: أن اشكر يحتمل أن يكون التقدير: بأن اشكر، ويحتمل أن تكون [ ص: 48 ] مفسرة، وقال : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما. وقوله تعالى: سفيان بن عيينة إلي المصير توعد أثناء الوصية.
وقوله تعالى: وإن جاهداك الآية. روي أن هاتين الآيتين نزلتا في شأن ، وذلك سعد بن أبي وقاص حمنة بنت أبي سفيان بن أمية - حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى يفارق دينه ويرجع إلى دين آبائه وقومه، فلج سعد في الإسلام، ويروى أنها كانت إذا أجهدها العطش شجوا فاها، ويروى: شجروا، أي: فتحوه بعود ونحوه وصبوا ما يرمقها، فلما طال ذلك ورأت أن سعدا لا يرجع أكلت، ففي هذه القصة نزلت الآيات، قاله أن أمه - وهي والجماعة من المفسرين. سعد بن أبي وقاص
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وواطأت الآية الأولى ببر الوالدين وحكمه، ثم حكم بأن ذلك لا يكون في الكفر والمعاصي، وجملة هذا الباب أن وتلزم طاعتهما في المباحات، وتستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر جهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلكة عليها ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب، وخالف طاعة الوالدين لا تراعى في ركوب كبيرة، ولا في ترك فريضة على الأعيان، في هذا التفصيل، فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء الآخرة شفقة فلا يطعها. الحسن
وقوله: وصاحبهما في الدنيا معروفا يعني: أي: صلهما بالمال، وادعهما برفق، ومنه الأبوين الكافرين، رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم - وقد قدمت عليها خالتها، وقيل: أمها من الرضاعة - فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم، أسماء بنت أبي بكر وراغبة، قيل: معناه: عن الإسلام. قول
[ ص: 49 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والأظهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على لولا حاجتها، ووالدة أسماء هي أسماء قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسعد، وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.
وقوله تعالى: واتبع سبيل من أناب إلي وصية لجميع العالم، كأن المأمور الإنسان، و"أناب" معناه: مال ورجع إلى الشيء، وهذه سبيل الأنبياء والصالحين، وحكى أن المأمور النقاش سعد ، والذي أناب رضي الله عنهما، وقال: أبو بكر إن لما أسلم أتاه أبا بكر سعد ، ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعثمان ، وطلحة وسعيد ، ، فقالوا: آمنت؟ قال: نعم، فنزلت فيه والزبير أمن هو قانت آناء الليل ، فلما سمعها الستة آمنوا، فأنزل الله تعالى فيهم والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى إلى قوله تعالى: أولئك الذين هداهم الله . ثم توعد عز وجل بالبعث من القبور، والرجوع للجزاء، والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها.