تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون
جفا الرجل الموضع: إذا تركه، وتجافى الجنب عن مضجعه: إذا تركه، وجافى الرجل جنبه عن مضجعه، وفي الحديث: "يجافي بعضديه عن جنبيه" أي يبعدهما عن بدنه، فقوله تعالى: تتجافى جنوبهم أي تبتعد وتزول، ومنه قول : عبد الله بن رواحة
نبي تجافى جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
ويروى: "يبيت يجافي"، قال ، الزجاج التجافي: التنحي إلى جهة فوق. والرماني:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قول حسن، وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سب ونحوه. [ ص: 76 ] و"الجنوب": جمع جنب، و"المضاجع": موضع الاضطجاع للنوم. وقال : أراد بهذه الآية الصلاة بين المغرب والعشاء، وقال أنس بن مالك ، عطاء وأبو سلمة : أراد صلاة العشاء الآخرة.
وقال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وكانت الجاهلية ينامون من أول الغروب، ومن أي وقت شاء الإنسان، فجاء انتظار وقت العشاء الآخرة غريبا شاقا، وقال أيضا: أراد انتظار العشاء الآخرة; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخرها إلى نحو ثلث الليل، وفي ذلك أحاديث كثيرة. وقال أنس بن مالك : "تجافي الجنب هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة". وهذا قول حسن، يساعده لفظ الآية، وقال الجمهور من المفسرين: أراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل. الضحاك
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وعلى هذا التأويل أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح، وفيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قيام الليل ثم يستشهد بالآية. ذكره عن الطبري رضي الله عنه. معاذ بن جبل
[ ص: 77 ] ورجح هذا القول بأنهم جوزوا بإجفاء، فدل ذلك على أن العمل إجفاء أيضا هو قيام الليل. الزجاج
وقوله: "يدعون" يحتمل أن يكون في موضع الحال من الموصوفين، أي وقت التجافي، ويحتمل أن يكون صفة مستأنفة، أي: تتجافى جنوبهم وهم أيضا في كل أحوالهم يدعون ليلهم ونهارهم، و"الخوف" من عذاب الله، و"الطمع" في ثواب الله. و"ينفقون" قيل: معناه: الزكاة المفروضة، وقيل: النوافل والصدقات غير المفروضة، وهذا القول أمدح.
ثم ذكر تعالى وعدهم من النعيم بما لم تعلمه نفس ولا بشر ولا ملك.
وقرأ وحده: "أخفي" بسكون الياء، كأنه قال: "أخفي أنا"، وهي قراءة حمزة ، وروي عنه: "ما أخفيت لهم من قرات أعي"، وقرأ الأعمش : "ما نخفي لهم" بالنون مضمومة، وروى عبد الله عن المفضل : "ما يخفى لهم" بالياء المضمومة وفتح الفاء، وقرأ الأعمش : "ما أخفى" بفتح الهمزة، أي: ما أخفى الله لهم، وقرأ جمهور الناس بفتح الياء على بناء الفعل للمفعول، و"ما" يحتمل أن تكون بمعنى الذي، فعلى القراءة الأولى فثم ضمير محذوف تقديره: أخفيه، وعلى قراءة الجمهور فالضمير الذي لم يسم فاعله يجري في العودة على "الذي"، ويحتمل أن تكون استفهاما، فعلى القراءة الأولى فهي في موضع نصب بـ"أخفي"، وعلى القراءة الثانية هي في موضع رفع بالابتداء. محمد بن كعب
[ ص: 78 ] و"قرة العين": ما تلذه وتشتهيه، وهي مأخوذة من القر، كما أن "سخنة العين" مأخوذة من السخانة، وأصل هذا - فيما يزعمون - أن دمع الفرح بارد، ودمع الحزن سخن.
وفي معنى هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ". وقال "قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: رضي الله عنه: "في التوراة مكتوب: على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". وقرأ ابن مسعود ، ابن مسعود ، وأبو هريرة رضي الله عنهما: "قرات" على الجمع. وقوله: وأبو الدرداء جزاء بما كانوا يعملون ، أي: بتكسبهم.
وقوله تعالى: أفمن كان مؤمنا الآية. روي عن أنها نزلت في عطاء بن يسار رضي الله عنه: علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وذلك أنهما تلاحنا، فقال له رضي الله عنه: اسكت فإنك فاسق، فنزلت الآية. وذكر علي بن أبي طالب ، الزجاج والنحاس ، وغيرهما أنها نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط، وعلى هذا يلزم أن تكون الآية مكية، لأن عقبة لم يكن بالمدينة، وإنما قتل في طريق مكة منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، ويعترض القول الآخر بإطلاق اسم الفسق على الوليد، وذلك يحتمل أن يكون في صدر إسلام الوليد لشيء كان في نفسه، أو لما روي من نقله عن بني المصطلق ما لم يكن حتى نزلت فيه: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ، ويحتمل أيضا أن تطلق الشريعة ذلك عليه لأنه كان على طرف مما يبغي، وهو الذي شرب الخمر في [ ص: 79 ] خلافة رضي الله عنه، وصلى الصبح بالناس أربعا، ثم التفت وقال: أتريدون أن أزيدكم؟ ونحو هذا مما يطول ذكره. عثمان
ثم قسم الله تعالى المؤمنين والفاسقين الذين فسقهم بالكفر; لأن التكذيب الذي في آخر الآية يقتضي ذلك، وقرأ : "جنة" بالإفراد، وقرأ طلحة أبو حيوة: "نزلا" بإسكان الزاي، والجمهور على ضمها، وسائر باقي الآية بين.